story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

المناضل التراجيدي

ص ص

أنتمي إلى جيل درس على يد الراحل عبد العزيز النويضي… شخصيا درست على يد الراحلين حسن المنيعي ومحمد الكغاط حين اخترت المسرح أفقا للعمل وبقيت بعيدا عن الحقوقيين والمحامين، ولكنك حين تضع رجلك في المسرح تجدها تغوص في السياسة، لأن خشبة المسرح هي التي تستقبل القضايا السياسية المستحيلة لكي تقلِّب التفكير فيها…

هكذا شكل عبد العزيز النويضي بالنسبة لي مناضلا محترما وشخصية أكاديمية لا يخالطها الشك… ولكني بعد مدة تبينت أن الرجل ينقاد في مآلات تراجيدية ليست أقلها “القدر الخفي” للرحيل في منبر اسمه صوت المغرب…

شاهدت الرجل في أثناء وباء كورونا يقف في باب المحكمة ليتابع أو يدافع عن تورط ابنه في قضي “كمامات مزورة”، وعثرت في وجهه على علامات حيرة عميقة…

سالت الأيام بعدها ، لأفاجأ بخبر رحيل النويضي القاسي خلال حوار على “صوت المغرب”. هل هي مصادفة تكفيها آية ” مَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (لقمان 34) أم هو قدر تراجيدي يقود الشخصية إلى الاستحالة؟ ألم يكن أوديب وهو يعد الشعب بالكشف عن سبب الطاعون، وبقول الحقيقة يصنع لنفسه هذا القدر التراجيدي، حين وجد نفسه في لجته؟ فما العمل في وضع الاستحالة السياسة غير أنه فقأ عينيه تعبيرا عن موت جزئي قبل أن يداهمه الموت الكلي.

في التأبين الفادح “وصية النويضي” بقلم الأستاذ يونس مسكين، اكتشفتُ “رؤوس الأقلام” التي جاء النويضي للحديث عنها… كيف لم يكتشف أنها رؤوس نووية تدمر قلب رجل أنهكه النضال؟ من محاربة الفساد إلى أزمة حرية التعبير إلى ملفات صحافيين معتقلين إلى الإصلاح السياسي إلى انتشار الفقر إلى غياب جيل من الخلف يقود النضال والترافع عن الحقوق…

لم يكن إلحاح النويضي على الحوار ونقله على صوت المغرب غير إحساس تراجيدي عميق بأن السياسة في المغرب الآن، وبأبعادها الأخلاقية والحقوقية والتعبيرية أصبحت قضية مستحيلة… هذه الاستحالة لا تساعد على حلها غير قوة مطلقة، وربما لهذا استدعى النويضي في حواره مساهمة ملكية من أجل الإصلاح السياسي…

وبعد ذلك لا تنحل الاستحالة السياسية إلا عبر طرحها على المسرح… ألهذا عبر النويضي عن رغبته في كتابة مسرحية للفنان الصديق بوسلهام الضعيف كما قرأت في نعيه له على الفايس؟ لنعد قراءة مسيحرية أوديب: الكل متعلق بالتزام ملك طيبة أمام الناس بقول الحقيقة.. لنقرأ مسرحية “برلمان النساء” وهي كوميدية: إنه تفكير إغريقي قديم في استحالة استمرار الرجال في التدبير السياسي، وضرورة السماح للمرأة بتجريب حظها فيه…

لم يكن النويضي غير بطل تراجيدي (أو إشكالي) يبحث عن قيم أصيلة في عالم منهار بتعبير لوسيان كولدمان … كلما تبين له باب فيه كوة ضوء إلا واكتشف أنه مغلق، ومستحيل…ظغط هذا الوضع المأساوي حتى أنَّ قلبُ الرجل واستقال عن الخفقان… ومن عاش في اللجة مع عبد الرحمان اليوسفي في حكومة التناوب بالآمال التي فتحتها لا يمكنه أن يتصور تراجعا مثل هذا…

جميل أن نتابع إنجازات المغرب، في صناعة السيارات والطائرات والطاقات المتجددة والإنجازات الديبلوماسية والرياضية وغيرها من ملامح عبقرية المغرب هنا والآن

ولكن نحتاج إلى التأمل في هذا “المغرب” الذي يترك شرفاءه يحترقون ببطء… يقاومون ويناضلون حتى يبدأ الأكسجين يتراجع في شرايينهم إلى أن يختنق القلب… رحم الله عبد العزيز النويضي.

د. سعيد الناجي