هلاك القطيع في مجلس الملك

انعقد عصر أمس الإثنين 12 ماي 2025 مجلس وزاري برئاسة الملك محمد السادس، وفي جدول الأعمال كانت قضايا بالغة الأهمية والحساسية، تهمّ السياسة الخارجية والأمن والدفاع والاقتصاد، وتطلّب الأمر إلغاء جلسة دستورية لمساءلة رئيس الحكومة في مجلس النواب، وانتهى الأمر باستقبالات وتعيينات ملكية…
لكن البلاغ الصادر عن الديوان الملكي عقب هذا المجلس، يخبنا أن الملك استهلّ هذا الاجتماع باستفسار وزير الفلاحة عن وضعية القطيع الوطني من الماشية، وهي ليست المرة الأولى التي يحضر فيها هذا الموضوع في هذا المستوى من الأجندة الرسمية للدولة، ما يعني أنه بات من بين أولى أولوياتها.
استفسار واهتمام لا ينفصلان عن المبادرة الملكية نهاية العام الماضي، بتغيير وزير الفلاحة، وإعفاء محمد صديقي، الذي كان كاتبا عاما للوزارة عندما كان يسيّرها رئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش، ثم خروج الوزير الجديد، أحمد البواري، للإعلان عن الحقيقة الصادمة التي ظلّت الأرقام والإحصائيات الرسمية تتستّر عليها: خسرنا ما لا يقلّ عن 38 في المئة من القطيع الوطني منذ العام 2016.
كما لا يمكن فصل هذه التطوّرات عن المهمة “الانغماسية”، بتعبير قاموس الحركات الجهادية التي تسمّي العناصر التي تتطوّع لاختراق صفوف الخصم في المواجهة المسلّحة لإحداث الثغرات فيها، مع كامل اليقين في التحوّل إلى هدف سهل للنيران؛ والتي قام بها حزب الاستقلال عبر أمينه العام نزار بركة ووزيره في التجارة رياض مزور.
مهمة لا يعقل أن يكون قادة حزب الميزان، خصوصا مع استحضار شخصية أمينه العام الحالي نزار بركة البعيدة عن منطق الصدام، قد أقدموا عليها بدون ضوء أخضر أو إيعاز من “الدولة”.
شيء ما يتغيّر في تدبير ملف الفلاحة ببلادنا. إذ لم تعد البيانات الحكومية كافية للتعبير عن الواقع، ولم يعد ممكنا ممارسة السلطة العمومية بالأسلوب القديم الذي يبيع الوهم، ثم يلوذ بالصمت حين تصطدم الأرقام بالوقائع.
ولأن العيد لم يعُد عيدا هذا العام، ولأن الماشية المغربية لم تعُد تكفي لحاجة السوق الوطني، ولأن الأمن الغذائي صار على المحك، فقد صار من اللازم أن نطرح السؤال الواضح: من المسؤول عن الوصول إلى هذا الوضع؟ ومن أهلك الزرع والضرع؟ ومن نُحاسب؟
بلاغ الديوان الملكي الذي أعقب المجلس الوزاري الأخير لم يكتفِ بتسجيل المعلومة، بل حمَل في طيّاته تحوّلا صامتا لكنه عميق: الملك استفسر وزير الفلاحة الجديد حول وضعية القطيع الوطني، وهو استفسار لا يوجه عبثا ولا يُعلن عرَضا، بل يشكل في حد ذاته توبيخا علنيا لمنظومة بكاملها.
الأخطر من ذلك، أن عملية إعادة تشكيل هذا القطيع، أي استعادة التوازن الحيواني الضروري للسوق الوطني، أوكلت إلى وزارة الداخلية حين حدّد الملك الجهة المشرفة في السلطات المحلية، وليس إلى وزارة الفلاحة، وهو ما يعني شيئا واحدا: الفلاحة فشلت، والدولة قررت نزع المفاتيح من يدها.
هذه ليست مجرد حركة إدارية. إنها إعلان رسمي عن انعدام الثقة في المشرفين على قطاع ظلّ لعقود يُدار بمنطق الغموض والزبونية والتقارير المجاملة.
وهي، فوق ذلك، محطة جديدة في مسلسل إعادة هيكلة دواليب القرار، بدأت مع الإعفاء المفاجئ لمحمد صديقي من وزارة الفلاحة، دون أن تشرح الحكومة الأسباب، ثم استمرار الرجل في عضوية المكتب السياسي لحزب الأحرار، كأنه مناضل مغوار، ليؤكد أن الإعفاء لم يكن نهاية المسار، بل بداية مرحلة جديدة من التمويه المؤسساتي.
التعديل الذي همّ وزارة الفلاحة هو الوحيد الذي لا يمكن أن يُقرأ خارج دائرة الإرادة الملكية، لأن الوزير الذي اقترحه أخنوش في اليوم الأول هو موظّفه المقرّب والكاتب العام لوزارته، وهو بالتالي البروفيل الذي يستحيل أن يكون تغييره نتيجة رغبة ومبادرة من أخنوش.
اليوم، ونحن نرى الداخلية تتقدم الصفوف، نفهم بأثر رجعي لماذا جاء وزير فلاحة جديد من خارج قيادة الحزب، وإن كان ضمن هيئة مهندسيه، ولماذا بدأ الكشف التدريجي عن معطيات كانت، حتى الأمس القريب، تندرج في خانة “الخطوط الحمراء”: قطيع متدهور بنسبة تفوق 38% مقارنة بسنة 2016، سوق لحوم محتكر من قبل مافيات الاستيراد، ودعم عمومي يوزع بلا أثر ملموس على الأسعار.
لقد تفتّقت عبقرية السلطة عن تمرين سياسي ناعم: حزب الاستقلال، عضو الحكومة، يخرج من القصر السياسي التقليدي ليلعب دور الممهّد، فتُطلق تصريحات نزار بركة عن ضرورة مراجعة شعيرة الأضحية، ويقف الوزير رياض مزور أمام الكاميرات ليُطلق رصاصة جدل “الفراقشية”، ليُطرح سؤال اللحظة: هل يستحق الوضع الحالي أن نذبح أضاحينا؟ أم أن الواجب هو ذبح الأوهام أولاً؟
لكن في خضم هذا المشهد، يبقى السؤال الأصلي معلقا: من نُحاسب؟ هل نبدأ بمن هندس السياسات الفلاحية منذ 15 عاما وخصص لها الملايير دون أثر حقيقي على السيادة الغذائية؟
وهل يمكن لعزيز أخنوش، الذي جمع بين المال والقرار، بين الحزب والحقيبة، بين المخطط الأخضر والكرسي الأزرق، لا يمكن أن يتنصّل من مسؤوليته بوصفه “رئيس حكومة جديد”؟ فالهشاشة التي نراها اليوم هي ابن شرعي لسنوات “حكمه” القطاعي الطويلة.
أم نُحمّل محمد صديقي، الذي شغل منصب الكاتب العام للفلاحة قبل أن يصبح وزيرا، والذي وقع في فخ الإنكار حين فاحت روائح الأزمة، ثم غادر الصمت فجأة ليصرّح بأن الأضحية مهددة، وكأنه لم يكن يعلم، أو كأن المصيبة وقعت فجأة من السماء؟
القطيع الوطني ليس ملفا تقنيا يمكن إغلاقه ببلاغ. إنه اختصار مكثف لفشل نمط كامل من التدبير العمومي، ولطريقة في إدارة الدولة تعتبر المواطن متلقيا للقرارات لا شريكا في صياغتها، ولنموذج سياسي يُكرّس الريع ويفرغ المفاهيم الكبرى من معناها.
وإذا كان الملك نفسه قد ساءل المسؤولين، وإذا كانت وزارة الداخلية قد تسلّمت زمام القيادة، وإذا كان عيد الأضحى قد أُفرغ من طقسه الأسمى، فالمطلوب اليوم ليس فقط ترميم ما تبقى من القطيع، بل إعادة الاعتبار لما ذُبح في صمت: الشفافية، والمحاسبة، والقدرة على قول الحقيقة للناس.
ربما بدأت الدولة تستعيد المبادرة. لكن الشعب يحتاج أكثر من ذلك: يحتاج أن يعرف من خان ثقته، ومن زيّف له الأرقام، ومن أدخله في العيد بلا أضحية ولا ثقة.
دون محاسبة، كل قطيع معرّض للإبادة من جديد.