من المدرجات إلى الشاشات.. كرة القدم في زمن شبكات التواصل الاجتماعي

ص
ص
في كتابه “كرة القدم.. ديانة تبحث عن إلاه”، يقول الكاتب الإسباني فاسكيز مونتالبان عن علاقة المشجعين بأنديتهم، وعن تأثيرهم في قرارات إداراتها، “أندية كرة القدم لا يمكن أن تُدار من قِبل المشجعين”.
ربما ما كتبه مونتالبان في نهاية القرن الماضي، لم يكن يتوقع خلاله أن ذلك التأثير الذي كان محصورا في مدرجات الملعب مرة واحدة في الأسبوع أو مرتين على أكثر تقدير، سينتقل إلى فضاءات أخرى أكثر رحابة بعد ظهور وسائل التواصل الإجتماعي، وستصبح إمكانية التأثير بشكل أقوى على مدار أيام الأسبوع واليوم والساعة، وهو الذي لم يكن حينها قد شاهد بعد أندية كرة القدم هذه الأيام، ولم ير بالطبع الجيل الحالي من المشجعين.
أجيال في نفس الغرفة
كثير من الدراسات الحديثة التي تهتم بسلوك مشجعي كرة القدم الحاليين وبيان اختلاف سلوكياتهم وطرق تفاعلهم مع اللعبة، ومدى تأثير مواقع التواصل الإجتماعي على أفكارهم وتصوراتهم، ومقارنتهم بالمشجعين القدامى الذين عاشوا فترة ما قبل الثورة التكنولوجية، تتوصل إلى أن الجميع أصبح يجلس في غرفة واحدة، وأن موجة هذه المواقع قد جرفت الجميع. صحيح أن التأثير متفاوت ويظهر بشكل أكبر على النوع الثاني، لكن كلا الفريقين الآن صار في نفس الخندق مع الآخر، ولم يعد من السهل التمييز بينهم داخل فضاء هذه المواقع.. فما الذي تغيّر إذن؟
ما تغير هو أنه بدخول مواقع التواصل الاجتماعي تحوّلت كرة القدم من مجرد منتج يُستَهلك لبضع ساعات أسبوعيا إلى منتج يُستَهلك على مدار الساعة، وهو ما تطلّب قدرا أكبر من المحتوى ليستهلكه الجميع، وبالتالي تحوّل المشجع من مجرد مستهلك سلبي للمحتوى إلى مُنتِج له، أو على الأقل عنصر فاعل في عملية الإنتاج، ولم يعد الأستوديو التحليلي هو محور عملية الإنتاج والمصدر الوحيد لها في كرة القدم، بل تم تجاوزه تماما حتى كاد يندثر، وانتهى بذلك عصر “احتكار الإنتاج” وانتقلنا إلى عصر “ديمقراطية المحتوى”.
كما ساهم كذلك دخول الأندية واللاعبين إلى هذه المواقع في سهولة وصول الآراء إليهم، سواء الإيجابية منها أو السلبية، وتسبّب استخدام الأندية واللاعبين لهذه المواقع لغرض التسويق، في إشعار المشجعين بأهمية أكبر من اللازم باعتبارهم العنصر الذي تقوم عليه صفحات هذه الأندية واللاعبين، والتي تُعَدُّ مصدرا أساسيا للأموال بالنسبة للجميع.
وبسبب هذا الحرص على اكتساب المشجعين وإرضائهم، شعر المشجعون بأهميتهم ودورهم في العملية الكروية، وانتقلت بذلك مركزية اللعبة إلى الجمهور، وباتت الكثير من خيوط اللعبة في أيديهم بالفعل.
الجمهور مصدر الرواتب
يتقاضى اللاعبون الملايين سنويا، والمدرب كذلك، وباتت هناك قناعة عند المشجع أنه هو مَن يدفع هذه الملايين، أو على الأقل يساهم في دفعها، وبالتالي فإنهم يعملون لخدمته، ودورهم الوحيد هو إرضاءه، ومن البديهي أن يسبّهم عند التقصير، وقد يتجاوز ذلك ويسبّ عائلاتهم، والأكثر بداهة أن يتحملوا هذه الشتائم، لماذا؟ لأنهم يتقاضون الملايين التي يدفعها لهم المشجع، هذه قناعة متأصّلة لدى أغلب المشجعين الآن.
هكذا نشأ وضع مواقع التواصل الاجتماعي. الملايين من المشجعين المتحمسين يجلسون في مكان واحد لعدة ساعات يوميا، ويمتلكون وسيلة مباشرة للتواصل مع اللاعب أو المدرب أو النادي، وكذلك لا يخشى أحدهم أي ملاحقة أو تعقب، ويمتلك رغبة دفينة في إظهار مدى ولائه للنادي الذي يشجعه مهما كلّفه ذلك، لأنه حسب صحافي يومية الغارديان البريطانية “سِد لو” فمشجع مواقع التواصل الإجتماعي يبدو أكثر ولاء، أو يتظاهر بأنه كذلك، من المشجع الذي يحضر المباريات ويتشارك مع النادي مكانيا، كما في حالة مشجعي الأندية الأوروبية الذين يقيمون في قارات أخرى على سبيل المثال”.
وكذلك لأن مواقع التواصل الاجتماعي أتاحت أن يكون مفهوم التضامن والانتماء مفهوما “مسرحيا” يتم دون عناء عن طريق التفاعل الكلامي أو الصور بدون أي نتائج أو عواقب حقيقية، ضغطة زر هي كل العناء الذي تتكبّده لأجل أن تشعر بالانتماء إلى مجموعة أو رأي أو تيار معين، والشخص نفسه لو تعرَّض للموقف على أرض الواقع فلن يتصرّف أو يفعل ما يفعله هناك، لكن إحساسه بأن هذه المواقع تتجاوز الحقيقة والواقع وليست جزءا منه، هو ما يدفعه لذلك.
سقوط الضوابط الأخلاقية
ماذا أنتج هذا الوضع؟ أنتج مئات التعليقات على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي تتمنى مثلا مكروها للاعب يعتبره الجمهور صفقة خاسرة، وآلاف التعليقات العنصرية على لاعب الفريق الخصم لأنه يسبب متاعب لفريقهم في المباريات الكلاسيكية، ومئات التهديدات بالقتل لآخرين لتسبُّبهم بخسارة الفريق في إحدى المباريات، ومثل ذلك ملايين التعليقات في كل أنحاء العالم تتراوح من مجرد انتقاد عادي أو آراء فنية وتكتيكية إلى حدِّ العنصرية وتمنّي الموت، والمشجع يفعل ذلك بفخر لأنه انتصر لناديه الذي يعشقه.
وطبقا لقوانين المشجعين، فلا يحق للاعب الشكوى من ذلك أو انتقاد الوضع على هذه المواقع، لأنهم مَن صنعوا هؤلاء اللاعبين، وما داموا يشجعونهم عند الفوز ويمدحونهم عند الإجادة فلا بد أن يتحمّلوا السباب والعنصرية عند الهزيمة، وعدم تقبُّلهم ذلك يعني أنهم أصحاب شخصية ضعيفة ولا يتحمّلون الضغوط التي تتطلّبها كرة القدم، ومناقشة ذلك مع المشجع لا تُجدي نفعا، لأن ما يفعله ما دام يلقى صدى لدى الإدارات فلن يتوقف عن ذلك.
إيجابيات رغم كل شيء
رغم كل السلبيات التي أحدثتها مواقع التواصل الإجتماعي لدى مشجعي كرة القدم، فإن أهم الجوانب التي يمكن وصفها بالإيجابية في الموضوع، هو ما ما فتحت به المجال هذه المواقع للجميع للتعبير عن آرائهم وأفكارهم، وهو ما سمح للكثير من الآراء والأفكار العظيمة بالظهور والوصول للجمهور وللمسؤولين عن اللعبة كذلك، بحيث أصبح بإمكان أي مستعمل لها الآن أن يكتب تحليلا تقنيا عميقا يقرؤه الجميع ويصل إلى أنشيلوتي وغوارديولا شخصيا، وهو ما لم يكن متاحا من قبل إلا للاعبي الكرة السابقين وبعض الصحافيين المتخصصين.
يبقى الجانب المظلم لهذه “الديموقراطية”، هو السماح لكل مَن يمتلك هاتفا وشبكة إنترنت أن يُدلي برأيه رغم عدم توفره على دراية كافية بالموضوع، وصار كل المتابعين محللين يمتلكون وجهات نظر يرغبون في فَرْضها على الكل، وبكثير من الدكتاتورية والعنف اللفظي أحيانا، وهو ما سمح طبقا للتوزيع الإحصائي الطبيعي للبشر بوجود الملايين من الآراء غير المبنية على أي منطق سوى مجرد الرغبة في الإدلاء بأي رأي لمجاراة الجميع والإحساس بالوجود، وهو ما أغرق العالم في سيل من السطحية والحماقات.
|