ملتمس القرابة

أن نقول إن المرحلة الحالية تتّسم بواحدة من أسوأ الحكومات التي تعاقبت على المغرب منذ الاستقلال، فهذا تحصيل حاصل ومن باب البديهيات؛ لكن المصيبة تصبح أكبر وأعقد عندما يجتمع ذلك مع واحدة من أضعف حالات المعارضة التي عاشها المغاربة على الإطلاق.
نعم هناك شرفاء، ومجتهدون، ومبادرون، ولكل من مكوّنات المعارضة الحالية لحظة أو لحظات مشرقة هنا أو هناك، من المعارضة الاتحادية إلى مجموعة العدالة والتنمية مرورا بالكتاب والسنبلة؛ لكن العطب في ما تمثّله هذه المعارضة في ميزان القوة من جهة، وما تفعله مع بعضها البعض من جهة ثانية.
منذ أن انتشرت أنباء تقديم ملتمس رقابة ضد حكومة عزيز أخنوش قبل بضعة أسابيع، بدا المشهد مثيرا للاهتمام، بل ومبشّرا سياسيا: معارضة برلمانية تسعى إلى تفعيل واحدة من أرفع آليات الرقابة البرلمانية، بعد غياب دام أكثر من ثلاثة عقود.
فباستثناء محاولتي سنتي 1964 و1990، ظلت ملتمسات الرقابة في المغرب بمثابة تمرينات نظرية يطالعها طلبة الحقوق في كتب العلوم السياسية. لكن النسخة الثالثة التي كادت تبصر النور في 2025 لم تكن سوى ملتمس “قرابة”، لا رقابة. والقرابة هنا ليست بين مكونات المعارضة نفسها، بل هي طلب القرب من الحكومة، سواء الحالية أو المقبلة، ومحاولة ضمان مكان في الصفوف الأولى، إن لم يكن داخلها فبجانبها على الأقل.
فقد تحول ما كان يفترض أن يكون تمرينا ديمقراطيا شجاعا، إلى تمرين في البلادة السياسية. فمن مواجهة الحكومة إلى مجاملة الحكومة عبر الهدايا المجانية، ومن التلويح بالمحاسبة إلى التناحر حول من يقف أمام الميكروفون.
حزب الاتحاد الاشتراكي الذي أطلق الرصاصة الأولى، قبل نحو سنتين، سرعان ما قرر خفض السلاح والانسحاب، محتجا بأن بقية مكونات المعارضة حاولت السطو على مبادرته، وكأن معركة المصير الوطني تُختزل في ترتيب الكلمات على منصة البرلمان. والنتيجة ابتكار مفهوم جديدة ل”الرقابة الشعبية”، يعبّر في حقيقة الأمر عن قرار بالسير خلف سرب الحمام في حملته الانتخابية المبكّرة.
وبينما كان يفترض أن تكون مهددة ب”السقوط”، لم يكن أمام الحكومة سوى التمدد في مقعد المتفرج، وهي تتابع ملتمس الرقابة يتحول أمام أعينها إلى ملتمس ولاء. لحظة انقلب فيها الخطر إلى فرصة، والسؤال السياسي إلى نكتة دستورية.
كان يفترض في أحزاب المعارضة أن توحّد صفوفها، وتتسلح بما يكفي من الجرأة لتقديم ملتمس يحرج الحكومة، ويضعها تحت المجهر. لكن الذي حصل أن تلك الأحزاب وقعت في فخ أكبر من كل الحسابات الانتخابية: صراع الأناوات الحزبية، وتمثيلية الزعامة، واستباق لحظة الاقتراع بصراعات تافهة حول ترتيب التوقيعات، و”شرف” من سيلقي الخطاب.
في المشهد السياسي المغربي، نادرا ما تجتمع مكونات المعارضة، ونادرا أكثر أن تتوافق على مسطرة من حجم ملتمس رقابة. لذلك، ما حدث هذه المرة يُسجَّل في خانة العبث السياسي الصافي.
لم يكن التراجع المفاجئ للاتحاد الاشتراكي سوى دليلا جديدا على أن جزءا من المعارضة المغربية لا يعارض من منطلق سياسي، بل من منطلق تفاوضي مع الحكومة، وهو اختيار سياسي مشروع على كل حال. وأن الحسابات الجارية لم تعد تتعلق بإسقاط الحكومة أو مساءلتها، بل بحجز مقعد محتمل في حكومتها القادمة.
في هذا السياق، لا يعود مستغربا أن يتبخر ملتمس الرقابة، وأن يتحول إلى ما أطلقنا عليه ساخرين “ملتمس القرابة”.
فالمعني هنا لم يكن سوى تودّد خافت للسلطة التنفيذية، ورسالة ضمنية مفادها: نحن هنا إن احتجتم إلينا، ونملك الأصوات إن رغبتم في تحصين شرعيتكم، لكن فقط إن ضمنت لنا بعض فتات المائدة وجدتم علينا (من الجود) بفائض أعيانكم وكائناتكم الانتخابية.
وفي غمرة هذا المشهد السريالي، تجرأت بعض الأصوات على المقارنة بين مبادرة “التقلاز” بملتمس الرقابة الحالي، وملتمسي الرقابة التاريخيين لسنتي 1964 و1990.
أي إسفاف هذا؟ أن يُقارن المهدي بنبركة الذي صعد إلى المنصة مدجّجا بالموقف، أو عبد الرحيم بوعبيد الذي تحدث بعقل الدولة لا بلغة الحزب، بزعامات تدخل المسرح السياسي بأحد مظهرين: مرة ببدلة المعارض، وأخرى بقلب المتحالف.
لا عجب أن التاريخ نفسه غضب من هذه المقارنة، ورفض أن يُجاور اسما مثل المهدي أو بوعبيد بزعامات لا تجيد سوى الانسحاب (أو الانقلاب) في منتصف المعركة.
ملتمس الرقابة تحول إذن إلى ملهاة حزبية، وإلى درس مجاني للحكومة في ما يمكن أن تفعله المعارضة إذا تُركت لشأنها. وأكثر ما يثير السخرية أن بعض الفاعلين السياسيين خرجوا ليرددوا بعد الانهيار: لا بأس، لم نكن نحتاج إلى الملتمس أصلا، فالحكومة ساقطة شعبيا!
أي عبقرية سياسية هذه؟ أن تقول إن الشعب أسقط الحكومة لكنك تمنع تفعيل الآلية الدستورية لتثبيت هذا السقوط؟ هل المعارضة اليوم تسعى إلى محاسبة الحكومة أم إلى تعزية نفسها بفكرة أنها ميتة إكلينيكيا؟
بافتراض صحة الاتهامات التي وجّهتها قيادة العدالة والتنمية للاتحاد الاشتراكي، باعتزامه إفشال المبادرة في جميع الأحوال، ماذا كانت مجموعته النيابية ستخسر لو ترفّعت عن حساب من يقدّم الملتمس أمام البرلمان؟ فكّروا فيها ولو ما باب “تبع الكذاب حتى لباب الدار”.
في الحقيقة، لم تكن هذه المهزلة سوى تأكيدا جديدا أن الكثير من مكونات المشهد الحزبي المغربي تعيش خارج الزمن السياسي، وتعتقد أن المعارضة ليست وظيفة حيوية بالنسبة للدولة وعلاقتها بالمجتمع، بل مناورة، وأن الرقابة ليست أداة مساءلة، بل وسيلة ضغط لطلب القرب.
لذلك لم يكن مفاجئا أن تسقط المبادرة من الداخل، قبل أن تصل إلى أسوار البرلمان، ويتحوّل ملتمس الرقابة إلى طلب قرابة من طرف من يحسن المناورة.
أما الحكومة، فعليها أن تشكر خصومها بدل أن تردّ عليهم، وأن تمنح لكل معارض شارك في هذه المسرحية رسالة شكر خاصة. فقد نجت من امتحان الرقابة دون أن تحضر، وكسبت وقتا إضافيا في زمن سياسي تعرف أنه ضيق، لكنها تدرك أن خصومها أكثر ضيقا.