story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

مادلين.. سانتياغو غزة!

ص ص

وأنا أتابع تفاصيل تلك الرحلة المجنونة، أو النبيلة، سمِّها ما شئت، لم أتمالك نفسي من طرح سؤال واحد ظلّ يتردد داخلي كنبض: ما الذي يدفع بشباب من بلدان مختلفة إلى ركوب البحر في سفينة صغيرة، لا تحمل غير مساعدات رمزية، ومواجهة موت محتمل، فقط لمحاولة الوصول إلى غزة؟ لا شهرة في الأفق، ولا مكافآت في الانتظار، ولا وعد بالعودة سالمين.

وحدها الفكرة هي ما يملكونه: فكرة أن الصمت خيانة، وأن الموقف، حتى لو كان صغيرا وعاجزا، خير من الركون إلى الخذلان.

هكذا جاءت سفينة متهالكة لتمتحن معنى الشجاعة، ومعنى الكرامة، ومعنى أن تكون إنساناً قبل كل شيء.

وليست السفن وحدها من تمخر عباب البحار، بل قد تبحر أيضا الرسائل والرموز، وقد تبحر القضايا إذا ما حملتها قلوب صافية وأذرع مصمّمة على كسر الحصار. ولعل سفينة “مادلين” لم تكن أعجوبة في شكلها، ولا حمولة ثقيلة في طاقتها، لكنها كانت محمّلة بأثقل ما يمكن أن يحمله البحر: ضمير العالم.

كان يمكن لهؤلاء النشطاء أن يكتفوا بالتغريد على تويتر أو بالتصفيق في قاعات المؤتمرات الأممية، لكنهم اختاروا أن يضعوا أجسادهم على متن سفينة صغيرة، وأن يقودوها من صقلية حتى تخوم الشواطئ المحاصرة، ليقولوا بوضوح: غزة ليست وحدها.

وعلى عكس طائرات العواصم التي تحمل الشروط والخطابات المعلّبة، جاءت “مادلين” محمّلة برسالة واحدة: في هذا العالم المختل، ما زالت هناك أسماء لا تزال تحمل الشرف كجواز سفر، ومقاومة الحصار كرسالة حياة.

لكن الرسالة الأعظم لم تكن تلك التي حملها أولئك الناشطون، بل تلك التي حملتهم هم أنفسهم: اسم فتاة من غزة اسمها مادلين كُلاب، فتاة لا أحد في الأمم المتحدة سلّط عليها الضوء، ولا وقّع باسمها رئيس حكومة، ولا خلدت صورتها جائزة دولية، ومع ذلك، شقّ اسمها طريقه إلى سفينة أبحرت في مواجهة الغطرسة الدولية، لأن قصتها وحدها كافية لتلخّص ما معنى أن تكون إنسانًا في غزة.

تبدأ الحكاية من شاطئٍ محاصر، حيث كانت مادلين تتشبّث بأصابعها الصغيرة بشبكة الصيد، وهي تتعلم من أبيها كيف تُصطاد السمكة وكيف يُصطاد الأمل.

كانت بعد في الخامسة من عمرها، طفلة تغسل قدميها بماء البحر قبل أن تعرف أبجدية الكتب، وتعدّ الأمواج بدلا من الأرقام. ثم تصاب الحياة بنكسة: الأب، عماد القارب والبيت، يُصاب بالشلل.

لم يكن ذلك حدثا دراميا من مسلسل، بل واقعٌ تقف فيه فتاة مراهقة أمام سؤال الحياة والموت: من يعيل الأسرة؟ من ينزل إلى البحر؟ من يقود القارب؟
وكان الجواب: مادلين.

من سن الثالثة عشرة، راحت الفتاة تقارع البحر وتواجه الأمواج وحدها. لا ببدن قوي ولا بمحرك حديث، بل بإصرار فطري وبوصلة لا تخطئ: الكرامة.

مجتمع غزة المحافظ لم يتعوّد أن يرى امرأة تقود قاربا، ولا فتاة تتوشّح شباك الصيد، لكنها لم تكن تنتظر التصفيق. كانت تنتظر شيئا واحدا: أن تخرج من البحر بما يسدّ رمق إخوتها الصغار. في عيونها كانت الرياح تُقرأ، وفي جسدها الصغير كانت سنوات من الصبر والصمود تتكثف.

لم يكن البحر هو التحدي الوحيد. الاحتلال كان هناك، يفرض حصاره، يقصف الميناء، يدمّر القوارب، ويضرب الشباك كما لو كانت سلاحا.

في واحدة من الغارات، احترق كل شيء: القارب، والمخزن، و.. الأمل.

ومع ذلك، خرجت مادلين من بين الرماد، لا تطلب تعويضا من الأمم المتحدة، بل تستأنف رحلتها كما لو أن المقاومة فعلٌ يومي، لا يحتاج إلى إعلام.

حين فكر العالم في إرسال سفينة لكسر الحصار، لم يحتج اسمها إلى لجنة ترشيحات. لم يحتج الناشطون إلى برهان على أن غزة تستحق الحياة.

كانوا يعرفون أن اسم “مادلين” هو المعنى نفسه. لم يُسمّوا السفينة باسم قائد ولا شاعر ولا ضحية، بل باسم فتاة ما زالت تذهب كل فجر إلى البحر، وربما لا تملك سوى شبكة ممزقة وقلب لا يعرف الهزيمة.

حين اقتربت السفينة من شواطئ غزة، لم تكن تحمل فقط بعض الأدوية والدقيق وأطرافا اصطناعية، بل كانت تحمل وجها من وجوه غزة.

مادلين ليست فقط فتاة من غزة. إنها غزة حين تقرر أن تحيا رغم أنف العالم، وتربي أبناءها تحت القصف، وتبتكر معنى جديدا للمقاومة، لا في الخنادق ولا في المحافل، بل في قارب خشبي ومجذاف مشقوق وشبكة مثقوبة.

قد تعتقل إسرائيل السفينة، وقد تحاصرها الطائرات والزوارق، لكن ما لا يمكنها أن تعتقله هو اسم “مادلين”، وما لا يمكنها أن تحاصره هو هذه الرمزية العظيمة التي جعلت من فتاة فقيرة قصةً تُروى، وسفينة تُبحر، وضميرا يوقظ العالم من سباته.

بينما يختلط السياسي بالمتواطئ، والإنساني بالمحايد، والمذبوح بالقاتل، كانت مادلين كلاب حجرا نقيًا في بحر ملوّث.

ربما لم تفز بجائزة نوبل، لكن اسمها صار علما. وربما لم تحضر جلسة في لاهاي، لكنها أصبحت شهادة على أن غزة، رغم الجراح، قادرة على أن تُبحر.

لا أدري لماذا حضرتي قصة “الشيخ والبحر” لصاحبها إرنست همنغواي، وأنا أتعقّب قصة مادلين الفلسطينية. في تلك القصة يغامر الشيخ سانتياغو بحياته من أجل سمكة ستستعمها أسماك أكبر منها؛ وفي قصة مادلين يلتهم المحتلّ أجساد وأحلام الفلسطينيين.

هكذا، ومن حيث لا تدري، وجدت غزة سانتياغو خاصّتها. رغم أن مادلين كلاب لم تُبحر لتصطاد سمكة أسطورية كما فعل شيخ همنغواي، ولم تخرج إلى البحر بحثا عن مغزى وجودي أو ملحمة أدبية، بل دفعتها الحاجة والكرامة إلى أن تضع كفّها الصغيرة على مجذاف خشبي وتصارع الموج لتُطعم إخوتها وتنتزع للحياة مكانا تحت قصف لا يرحم.

ومع ذلك، ثمة تقاطع صامت بين القصتين: كلاهما فرد أعزل في قارب صغير، يواجه قدَرا أكبر منه، ويعود إلى الشاطئ محمّلاً بالخسارات، لكنه لا يفقد شيئا من كرامته.

في قصة سانتياغو، البحر التهم السمكة؛ وفي قصة مادلين، الاحتلال التهم القارب.

لكن في الحالتين، ظلّ الرأس مرفوعًا، والبحر، رغم قسوته، لم ينتصر على الإنسان.