ليست نهاية الحرب.. بل بدايتها!

ما جرى خلال اثني عشر يوما الماضية، من حرب طاحنة بين إيران وإسرائيل، لم يكن مواجهة تقليدية يمكن أن نحتكم فيها إلى عدّاد الخسائر، أو إلى عدد الطائرات المُسقطة، والمنشآت المُدمرة، بل كانت اختبارا عميقا لقواعد الاشتباك الجديدة في الإقليم، ولتوازنات القوى التي ظلّت حبيسة الخطابات والأساطير، أكثر مما كانت حاضرة في الميدان.
دعونا نبدأ من المغرب، ونُسجّل، من موقع التقدير الموضوعي، لا السخرية، أننا مرتاحون لكون المغرب لم يصطفّ، لا صراحة ولا ضمنا، إلى جانب إسرائيل في هذه الحرب.
ليس ذلك بالأمر الهيّن ولا البديهي في سياق إقليمي بات فيه الكيان الإسرائيلي يقدّم نفسه كالمحور الذي تدور حوله كل الحسابات والتحالفات، ويُمارس ضغطا متزايدا على شركائه وحلفائه ليجعلوا من معركته مع إيران “قضيتهم” أيضا؛ وفي وقت يحاول بعض بني جلدتنا إقناعنا أننا أصبحنا تحت “الحذاء” الإسرائيلي، ويطالبنا بالاستمتاع بذلك عوض رفضه.
نعم، لقد كان التعاطي الرسمي المغربي مع هذه المعركة متّزنا وسليما، ونابعا من قراءة مسؤولة ودقيقة للموقع والدور، لا من انفعال أو مجاراة.
صمت الدولة المغربية طيلة أطوار المعركة لم يكن غيابا ولا ارتباكا، بل كان خيارا محسوبا، بدليل خروجها أمس بموقف سريع للتنديد بالهجوم الإيراني على قطر، وباتصال مباشر بين الملك محمد السادس وأمير دولة قطر، في خطوة تؤكد أن الحياد في الحرب لم يكن انكفاء، بل تعبيرا عن سيادة القرار، وعن قدرة على التمييز بين مسارات الصراع، وتقدير لا يخلو من وجاهة للمصالح الوطنية.
وبعدما وضعت الحرب أوزارها مؤقتا، وخرج دونالد ترامب ليعلن وقف إطلاق النار كأنّ المنطقة مزرعة من مزارع “مارالاغو”، يحق لنا أن نعيد تركيب المشهد بهدوء، ونقرأ ما وراء دخان القصف ولهيب التصريحات.
الحقيقة الجوهرية التي لا يجب أن يهرب منها أحد هي أن إسرائيل لم تنتصر، رغم تفوّقها العسكري الهائل، وغطاء الدعم الأمريكي الفعّال.
صحيح أن يدها طالت أعماق إيران، وألحقت أضرارا بالغة ببنيتها العسكرية، وقضمت من رأس منظومتها الأمنية، وضربت الحرس الثوري في مقتل…
لكن بالمقابل، خرجت طهران من الحرب واقفة، وربما أكثر صلابة مما كانت عليه، بعد أن قصفَت إسرائيل مباشرةً وللمرة الأولى في تاريخ الصراع، دون أن تُمحى من الخريطة كما هددت تل أبيب قبل أشهر فقط.
هنا، يكمن الدرس الأول من بين دروس كثيرة: في الزمن الجيوسياسي المعاصر، الانتصار ليس ما تفعله بالجغرافيا، بل ما تفعله بالرمزية. وإيران، رغم العقوبات والحصار وشيطنة الغرب، أرسلت للعالم رسالة لا يمكن تجاهلها: يمكن لدولة محاصرة، بلا حلفاء ظاهرين، أن تتحدى دولة مدججة بالسلاح النووي وتنجو.
وهي رمزية مُكلِّفة، ليس فقط لإسرائيل، بل لكل من اعتقد أن القوة الخشنة وحدها تصنع التاريخ.
أما الدرس الثاني، فيخص إسرائيل نفسها. حيث كشفت هذه الحرب حدود قدرتها على فرض المعادلات، وأثبتت أنها ليست سوى ذيل إقليمي ضمن هندسة أمنية أمريكية أوسع. هي تُقاتل، لكن واشنطن تقرر متى تتوقف الحرب، ومتى تُرفع الرايات البيضاء.
إدارة ترامب، بدوافع انتخابية واستراتيجية، اختارت أن تُنهي المواجهة حينما تأكدت أن طهران لن تسقط، وأن استمرار المعركة يضع المنطقة كلها على شفير الانفجار، وهو ما لا تحتمله الأسواق ولا حملات الدعاية الانتخابية.
إسرائيل إذا، لم تخسر عسكريا فقط بما أن القوة الصاروخية الإيرانية لم تتراجع، بل فقدت بعضا من وهم القيادة، وأثبتت أنها لا تستطيع فرض أمر واقع دون تفويض أمريكي.
في المقابل، رغم كل ما أصابها من جراح، خرجت إيران من هذه الجولة بمكاسب استراتيجية لا يُستهان بها. لقد اكتسبت شرعية ميدانية في نظر الكثير من شعوب المنطقة، وأثبتت أنها قادرة على الرد، وتحديد سقف التسويات.
كما كسبت طهران اعترافا دوليا ضمنيا بأنها طرف لا يمكن تجاوزه، وأن الحديث عن “إسقاط النظام” شعار فارغ، بينما الحقيقة على الأرض تقول إن أي تفاوض حول أمن المنطقة، أو مشروعها النووي، لا بد أن يمرّ عبر طهران، لا فوقها.
أما على مستوى التوازنات الإقليمية، فإن ما بعد الحرب لن يكون كما قبلها. القوى الخليجية راقبت المشهد بقلق واضح، وعبّرت عن اصطفافها المسبق دون تورّط مباشر، فيما اختارت تركيا أن تبقى على مسافة مناورة ذكية.
أما روسيا والصين، فقد اكتفتا بمراقبة المعركة كمن يقرأ تقريرا استراتيجيا حول توازنات المنطقة قبل أن يُحددا خطواتهما المقبلة. وحدها أمريكا خرجت وقد أجرت تمارين في إدارة حرب خاضها غيرها، واختبرت حدود انخراطها، وسقف دعمها لحلفائها.
نحن أمام شكل جديد من النهايات الرمادية للحروب، حيث لا توجد صورة مجنّد يزرع علمه على أرض العدو، بل توجد رسائل، وتحولات في الإدراك، وإعادة تشكيل لميزان الردع.
لقد خسرت إيران أذرعا إقليمية، وقادة عسكريين، ومنشآت نووية، لكنها كسبت وعيا جماعيا بأنها قادرة على الرد.
في المقابل كسبت إسرائيل معركة وجّهت فيها صدمة المباغتة، لكنها زرعت في وجدانها شكا مؤلما بأن المعركة المقبلة قد تكون أقسى وأبعد من مجرد ضربات جوية.
وإذا كان هدير الصواريخ قد هدأ مؤقّتا، فإن صوت المعركة لم يخفت بعد. لا أحد، في واشنطن أو في تل أبيب، يعتقد أن المواجهة وصلت إلى نهايتها.
فالصواريخ الإيرانية التي عبرت السماء نحو العمق الإسرائيلي لن تُنسى بسهولة، وستظل، إلى أجل غير معلوم، هدفا دائما لمحاولات الرصد والتدمير، بل قد تتحول إلى الذريعة الأولى في كل تسويغ لعدوان قادم، أو لعقوبات جديدة.
في المقابل، فإن الفلسطينيين الذين تابعوا هذه المعركة من بين أنقاض غزة، أو من خلف جدران المخيمات، يدركون، كما ندرك نحن، أن الكيان الذي وُلد غصبا، لا يزال يتصرف كمن يحتاج إلى إثبات شرعيته في كل لحظة.
إسرائيل لم تصبح دولة طبيعية، ولن تصبح كذلك ما دام وجودها مرتبطا بالعدوان والاحتلال والإقصاء.
المعركة، إذا، لم تكن مجرّد جولة بين جيشين، بل لحظة من لحظات إعادة ترتيب المعاني.
من الذي يخيف الآخر؟
من الذي يردع؟
ومن الذي يُحاصر من؟
ومن الذي يتظاهر بالقوة ليخفي عجزه عن وقف التاريخ وهو يتحرّك؟
ربما انتهت حرب الاثني عشر يوما بانسحاب تكتيكي، أو بتجميد مؤقت لإطلاق النار، لكنّ أسئلتها الكبرى بدأت الآن فقط.
وعلى طاولات القرار في العواصم الكبرى، كما في وجدان الشعوب المغلوبة على أمرها، لا تزال الجملة الحاسمة تُكتب: هذه ليست نهاية الحرب… بل بدايتها الحقيقية.