story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

قول في الخيانة الوطنية والمديح والسماع

ص ص

لعل الملكية لم يسبق لها، طوال تاريخها المديد، أن كانت في وضع مريح كما هي عليه اليوم. الملكية اليوم محط إجماع وطني واسع، وهي أيضا محط احترام وتقدير كبيرين من عموم الشعب المغربي بالنظر إلى أدوارها الاستراتيجية باعتبارها مؤسسة ضامنة للاستقرار، وهي فضلا عن كل ذلك، مسنودة بحصيلة معتبرة من المنجزات السياسية والتنموية يشهد بها القاصي والداني.

والملكية اليوم لا تواجه معارضة لنظام الحكم كما كان وضعها زمن المرحوم الملك الحسن الثاني، بل عكس ذلك تماما هو الحاصل، حيث تصطف القوى الوطنية خلف الملك محمد السادس، باعتباره رئيسا للدولة، ورمزا لوحدة الأمة، والساهر على احترام الدستور وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي. بل إن الأحزاب السياسية على اختلاف مرجعياتها تسند النظر إلى الملكية في القضايا السيادية والاستراتيجية، وحتى ما دون ذلك، باعتبار الزمن الملكي زمنا عابرا لزمن الحكومات ومهيمنا عليه.

والملكية اليوم تحظى أيضا باحترام الفاعلين الأساسيين في المنظونة الدولية، وهي شريك لا غنى عنه في قضايا السلم ومكافحة الإرهاب الدولي والجريمة المنظمة العابرة للقارات، وهذا الاحترام الكبير لم يتم اكتسابه من طريق منطق “الخدمة بالإجارة”، بل إنه انتزع انتزاعا بالمنجزات الدبلوماسية والأمنية، وانتزع أيضا بالمواقف الصارمة والقطائع المعلنة مع كبار الأمم ممن حاولوا بناء علاقة مختلة مع المملكة تجعلها في موقع “الأجير” لا في موقع الشريك.

هذه صورة مختصرة تلخص وضع الملكية في مغرب اليوم، لكن هل يعني هذا أن الوطن في مأمن من كل المخاطر؟ وهل يعني هذا أيضا أن الملكية ليست هدفا للمؤامرات بما يهدد مسارها ومنجزاتها؟ وهل يعني هذا أننا جميعا، الملكية والمجتمع، “قطعنا النهر وجفت أقدامنا”؟ الجواب قطعا هو لا. لكن من جهة أخرى، هل وجود هذه المخاطر يعني أن على الكل أن يلزم الصمت وأن يكون “المديح والسماع” هو عنوان المرحلة، الجواب مرة أخرى وقطعا هو لا.

إن أخطر ما يمكن أن يضر بالسياسة والمجتمع، وأكبر تهديد للملكية وشعبها، هو أن تنعقد الألسن، وأن يغيب الرأي الحر والمسؤول، وأن تتقلص مساحات حرية التعبير وفضاءات النقاش العمومي. وإن إشاعة الحريات الخاصة والعامة وتحصينها، والتشجيع على حرية الرأي والتعبير عنه هو السبيل إلى تعزيز اللحمة الوطنية وتقوية الوعي الجمعي وتَمْنِيعِ الدولة، وصد المخاطر والتهديدات، ذلك أن الاستقرار المتين لا يبنى على خراب. وهل هناك خراب أكبر وأعظم من خراب الصمت الخائف، وهل هناك أخطر من خراب ضيق الوطن انسدادا في مجالات النقاش العمومي الذي يلامس القضايا العامة بما يمنع من الاحتقان وضيق الأنفس.

في مثل هذا الأفق الوطني المفتح والمستوعب والنافع للبلاد والعباد، لا شيء أخطر من تصدر “بني وي وي” للمشهد العام، ولا تهديد للملكية والوطن أكبر من تهديد التخويف من الاختلاف والتدافع السلمي بين مختلف القوى وأهل السياسة وأصحاب النظر والفكر، تحت سقف الجوامع الوطنية. وإن هذا الأمر يجعل من التشهير والتشنيع بكل رأي مختلف ومخالف خطر داهم حقيقي، خاصة حينما يتم نقل هذا الاختلاف من سعة حرية التعبير والرأي إلى ضيق “الخيانة” و”خدمة الأجندات الخارجية” و”التشويش على المنجزات الوطنية”. ومن شأن التخويف بمثل هذه الفزاعات وغيرها من ضروب الترهيب والترعيب أن يتوارى أهل الرأي إلى الوراء، وأن يتصدر “أهل السماع والمديح” المشهد العام، بما يمنع عن صاحب القرار الانتباه إلى المزالق والمهالك.

ختاما، بالله عليكم، متى سيكون الزمن مناسبا، في بلد لم ترسخ بعد فيه قيم الحرية والاختلاف، ولم يشتد بعد عود الديموقراطية لكي نعييش تمارين التدافع السياسي والفكري؟ أليس هذا الزمن الآمن والمستقر هو فرصتنا للقيام بذلك؟ وإذا لم نقم بذلك اليوم تحت سقف الملكية الجامعة التي تتمتع بكامل شرعيتها ومشروعيتها وحكمة قيادتها ومتانة بنيانها وقوة منجازاتها، هل سنقوم بذلك زمن العسر -لا قدر الله- لكي نتدارك ما قد نكون أضعناه زمن اليسر.

وصفوة القول، إذا لم يسعنا الوضع اليوم لكي نعيش الاختلاف الحقيقي، والتدافع الديموقراطي الراشد والنافع، وتدبير النقاش العمومي الصادق، وتجريب مناخ الأزمات الحكومية في مختلف مستوياتها، وغير ذلك من مقتضيات الديمقراطية فمتى سنعيش ذلك؟ هل يعقل أن نعيشه كرها لا طوعا؟