story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
ثقافة |

عبد القادر مطاع..الممثل الذي ربّى ذائقتنا ثم مضى واقفا

ص ص

لم يكن عبد القادر مطاع الذي ودّعنا إلى دار البقاء، مجرد اسم يتسلّل إلى العناوين ويغيب مع الموسيقى؛ بل كان حضوره مؤسِّسا لخيال مغربي جمعته الشاشة ذات مساءات حول حكايات تروى بلسان مغربي مبين ونَفَس مطمئن.

من خشبة المسرح في الدار البيضاء إلى عدسة الكاميرا، شقّ مطاع طريقا خاصا لا يتوسّل الصخب ولا يساوم على الذوق. عرفه باقتصاد في الحركة، ونقاء في النطق، ومهارة في بناء شخصية ترى قبل أن تتكلم وتصدّق قبل أن تشرح.

هكذا صار مطاع جزءا من ديكور البيت المغربي، وذلك الأب الذي يسمَع كلامه من دون أن يعلو صوته، والجار الذي يسلّم على “الحومة” كلها بنظرة واحدة، والرجل الذي يقف في الموضع الصحيح فتستقيم الجملة كلها.

نشأ “الطاهر بلفرياط”، كما عرفته ذاكرتنا ذات مسلسل في عقد الثمانينيات، في مدرسة قديمة لا تمنح الشهادة إلا لمن يتقن الصنعة من أساسها. مسرح يهذّب اللسان والجسد، وإذاعة تقوّم المخارج والإيقاع، ثم تلفزيون يختبر صدق الممثل أمام كاميرا لا ترحم.

لذلك لم يكن يغريه بريق ترند عابر ولا ضجيج موسم؛ بل كان يشتغل للحرفة قبل السمعة، وللجمهور قبل الجوائز. علّم أجيالا من الممثلين قاعدة بسيطة: «قل أقلّ لتقنع أكثر»، واجعل الصمت جزءا من الأداء لا فراغا بين كلمتين.

بهذه الفلسفة رسّخ مطاع معيارا مهنيا وأخلاقيا مفاده أن الشعبية لا تعني الابتذال، والقرب من الناس يبدأ باحترام ذكائهم لا بمسايرتهم.

لا يقاس إرث الرجل بعدد الأدوار بقدر ما يقاس بصلابة الطريقة. كان يبني الشخصية من الداخل، ويمنحها خلفية تربط الملامح بالسيرة، وطبقات إحساس تتقدّم على الزينة الخارجية، وتوقيت دقيق في السكتة والنظرة.

لذلك التصقت به أدوار الأب الحازم والحنون في الوقت نفسه، ووجه الحكمة الهادئة وسط الفوضى، ورائحة القرية المغربية حين كانت الدراما مرآة أمينة لطبائع الناس.

كان يمسك بمفاتيح السلطة الأبوية من دون أن يتحوّل إلى جلاد، ويمنح الحنان من غير سيلان عاطفي. هذا التوازن الأخلاقي قبل الفني هو سر الثقة التي منحه إياها الجمهور، لأنه لم يخدعهم يوما بالانفعال المجاني، ولم يطلب منهم حبا لم يَستحقّه.

لم تبدِّد سنوات المرض مكانته، بل كشفت معدنها. ضعف الجسد وبقيت الهيبة، خفتَ البصر ولم يخفت الأثر. ظلّ اسمه يستدعى كلما ذكرت بدايات التلفزيون المغربي الجميل، وكلما احتاجت الدراما إلى شاهد على أن المهنة ممكنة من غير تزويق زائد ولا افتعال. كان حضوره في الذاكرة عزاء مسبقا؛ فحين جاء الرحيل بدا وكأنه يختتم المشهد الأخير كما يحب: بلا ضجيج، وبكثير من الوقار.

وفي الوداع، اجتمع الرسمي والشعبي على كلمة سواء: هذا رجل رائد لا يقاس بالحظوظ، بل باليد التي صنع بها ذائقة بلد كامل.

لم يصنع مطاع مجده وحده؛ صنع معه جسرا بين أجيال. فقد رافق ممثلين شبّانا، منحهم وقتا من خبرته، وصار «مرجعا» يسأل عن الجملة والوقفة والإيقاع. كان يكره النصيحة الثقيلة ويحبّ «التلميح» الذكي: دع الشخصية تكوّن نفسها، ودع المشهد يلتقط أنفاسه.

كثيرون من تلامذته يقولون إنهم تعلّموا منه فضيلة نادرة هي احترام الوقت. أي وقت التدريب الذي لا يختصر، ووقت المشهد الذي لا يبتلع، ووقت الجمهور، الأثمن من أن نسرقه بتمطيط أو ترهّل.

تلك أخلاق صنّاع المهنة حين كانت المهنة «حرفة» قبل أن تصير مجرّد “صناعة محتوى”.

لم تكن محبّة الناس له دينا في رقابهم؛ بل كانت نتيجةَ عقد غير مكتوب بين ممثل صادق وجمهور لا يطلب المعجزات. أعطاهم صورة الأب كما يجب أن تكون: لا عصا ولا مَسحة قداسة، بل رجل يخطئ ويصلح، ويتعب ويصبر، ويَسند من غير منّة.

أعطاهم صورة الجار القريب من الكلام اليومي، فأراح آذانهم من المبالغات، وأثبت أن العامية المغربية قادرة على أن تكون موسيقى حين تقال كما ينبغي. وأعطاهم، قبل كل ذلك وبعده، مثالا على أن الفنان يمكن أن يكبر بكرامة، وأن الشيخوخة ليست خصما للإبداع إذا بقي داخلها شيء من “نبل البداية”.

رحل عبد القادر مطاع وترك خلفه ما لا يؤرشف: فصاحة في النطق، ومقياسا للهدوء، وخيطا من الطمأنينة يربط الذاكرة ببيت مغربي كان يجتمع على مسلسل واحد ومائدة واحدة. ترك لتلفزيون المغرب معيارا للجمال البسيط الصعب؛ البساطة حين تصير حصيلة خبرة، والصعوبة حين يعرف صاحبها أين يضع كل شيء في موضعه. وترك لمدرّجات الفن درسا في الأخلاق المهنية: لا تبدّد رصيدك في كل مرّة، ولا تبالغ في طلب الضوء، فالضوء يجيء لمن يَعرف كيف يضيء غيره.

ذلك هو معنى البقاء بالنسبة للروّاد: لا يكتبه المهرجان ولا يفوَّت بقرار، بل يكتبه الناس حين يمرّ الاسم فيبتسمون تلقائيا. سلام على عبد القادر مطاع في الخشبة الأولى وفي اللقطة الأخيرة. سلام على الوجه الذي صار مرآة وذاكرة، وعلى الصوت الذي علّمنا أن السكون، حين يتقن، قد يكون أبلغ من الكلام.

هنا يتوقف النص وتستمر الحكاية؛ لأن بعض الوجوه، وإن غابت، تظلّ واقفة في مكانها.. من قلوبنا.