story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

زياش.. قصة النكران!

ص ص

في عزّ هذا الضجيج الذي يصنعه كأس إفريقيا للأمم، ضجيج الفرح والقلق والتوقعات، تسلّلت إلينا صورة واحدة، هادئة حدّ القسوة، لتكسر الإيقاع كله: حكيم زياش، بملامح أثقل من أي مباراة، يودّع شقيقه في جنازة امتدّ التحضير لها أيّاما، في محيط بركان، جماعة رسلان، يوم الإثنين 29 دجنبر 2025، بعد وفاة شقيقه يوم الثلاثاء 23 دجنبر 2025 إثر أزمة صحية مفاجئة، بحسب ما تداولته تقارير إعلامية متعددة.

لم تكن الجنازة حدثا “خاصا” حتى يمكن للرسميين أن يختبئوا خلف تلك الحجة الباردة. كانت معلومة سلفا، وكانت مرئية، وكانت، وهنا بيت القصيد، اختبارا لمعنى بسيط جدا: هل يتذكر الوطن من صنعوا له لحظات الدفء حين يأتي دورهم لينتظروا من الوطن دفئا رمزيا؟

لا أحد يطلب “استعراضا” وطنيا. ولا أحد يتوهّم حدوث “بروتوكولا” رسمي. المطلوب فقط إشارة، أو تعزية، أو مجرّد كلمة. حضور معنوي من مؤسسات الكرة على الأقل، في لحظة كان فيها المنتخب الوطني مجتمعا في المغرب، يعيش البطولة ويمشي تحت أضواء الكاميرات.

كل ما وصل إلى الناس، في الصورة المتداولة، هو إحساس بالعزلة. رجل حمل القميص الوطني، وحمل معه جراح التوقعات وضغط الجمهور وثمن الشهرة، يقف في لحظة الفقد كأن المشهد لا يعني غير أهله وأصدقائه الأقربين.

هنا تبدأ الصدمة. ليس لأن “الدولة” يجب أن تحضر كل جنازة، بل لأن منطق الاعتراف نفسه كان ينبغي أن يشتغل تلقائيا، في بلد يفترض أنه يعرف قيمة رموزه، ولو بالحد الأدنى الذي يحفظ ماء الروح قبل الوجه.

قد يقول قائل: “ليس لدينا معطى رسمي يثبت من حضر ومن غاب”. صحيح. وبعض التقارير تحدثت عن حضور شخصيات رياضية من نادي الوداد البيضاوي الذي ينتمي إليه زياش حاليا.

لكن النقطة التي فجّرت هذا الأثر العام ليست لائحة أسماء، بل الإحساس الرمزي: غياب الإشارة المؤسسية الواضحة من الجهات التي تمثل الكرة “الرسمية” أو “الدولة” بكل اختصار. إحساس بأن هناك برودة متعمدة، أو على الأقل لا مبالاة ثقيلة، في لحظة لا تحتاج سوى إنسانية صغيرة.

مع زياش تحديدا، لا تبقى الأمور في حدود “اللباقة”. لأن هذا الاسم ليس اسما عاديا في ذاكرة المغاربة. هو من حمل العلم في لحظات فرح جماعي نادر؛ وهو الذي ذاق، قبل أن يذوق التصفيق، طعم الاتهام والشكّ والنبرة القاسية التي تحوّل الكرامة إلى “مشكلة”، وتحوّل الاختلاف إلى شبهة وبداية تخوين.

وهو أيضا الذي دفع ثمن أن يكون إنسانا خارج قالب “اللاعب الآلة”، حين عبّر، كما يفعل ملايين البشر، عن تضامن مع مدنيين يُقتلون في غزة.

هنا تبدأ المنطقة الرمادية التي يجعلها الرسميون لعنة. أن تكون موهوبا لا يكفي؛ عليك أن تكون “مطيعا” بالصورة التي يريدونها، وأن تصمت بالصمت الذي يناسبهم.

لهذا لم تكن صورة الجنازة مجرد حزن. بل كانت تذكيرا فادحا بالقصة الأوسع.. قصة النكران.

نكرانٌ لا يقتصر على زياش، بل يتجاوز الكرة إلى طريقة بلد كامل في التعامل مع “ناجحيه”.

نحبّهم حين يفيدوننا، نتغنى بهم حين يرفعون الراية، ثم نُدير وجوهنا حين يصير لهم ثقل إنساني مستقل، حين يصبحون أشخاصا لا أدوات.

هذا النكران لا يظهر في لحظات الفقد فقط؛ بل يظهر في لحظات الاحتفال أيضا.

لماذا تلتقط كاميرات كأس إفريقيا، في كل مباراة، وجوه أساطير الدول المشاركة: لاعبون سابقون، نجوم قدامى، شخصيات صارت ذاكرة حيّة، ويُقدَّمون للأجيال الجديدة كجزء من المعنى؟

بينما يخلو المشهد عندنا من حضور مغربي مماثل، كأننا بلا تاريخ، وبلا أمجاد، وبلا رجال ونساء مرّوا من هنا وتركوا ذكرى أو أثر العرق على العشب؟

كأن لنا شريعة خفية تحرّم ترميز الناجحين، وتخاف من صناعة قدوة، وتتحسس من تحويل المغاربة المتألقين إلى مرجع رمزي للأجيال.

أنا شخصيا لم أفهم هذه العقدة كما فهمتها يوم زرت أديس أبابا. هناك رأيت كيف يمكن لبلد أن يعلّق صور هايلي جبري سيلاسي في كل مكان، ليس لأنه لا يملك غيره، بل لأنه فهم وظيفة الرمز: أن تقول للناشئة “هذا واحد منا… وقد فعلها”.

أذكر أنني خرجت يوما أتمشى بعد العصر، ففوجئت بعشرات، بل ربما مئات، يركضون في كل اتجاه. ظننت الأمر مصادفة أو حملة رياضية. ثم رفعت بصري فإذا بلوحة كبيرة تحمل صورة سيلاسي، وفهمت أنك حين تضع رمزا أمام الناس كل يوم، لا تتركه ماضيا في المتحف، بل تحوّله إلى طاقة في الشارع.

في المقابل، نحن نفعل العكس. نمنع الرموز من أن تصير قدوة، ثم نتباكى على الشباب حين لا يجدون مثالا يتبّعونه. نُطفئ أثر الناجح، ثم نتساءل لماذا تضعف الرغبة في النجاح. نُحاصر من يصنع الفرح حين يخرج عن النص، ثم نستغرب لماذا يصير المجتمع فقيرا في الأمل.

لهذا فإن العزاء الذي يستحقه زياش اليوم ليس مجرّد تعزية إنسانية، وهي أول واجب، بل أيضا اعتذار رمزي. اعتذار بلد يتأخر دائما عن لحظة الاعتراف، ويصل متأخرا إلى جنازات أبنائه، أو لا يصل.

تعازينا الصادقة لزياش ولعائلته، ولروح شقيقه الذي غاب في زمن لا يتسع حتى للحزن كما ينبغي.

ثم، بعد العزاء، ينبغي أن نقولها بلا تردد: المسؤول الذي لا يفهم قيمة الإشارة في لحظة الفقد، لا يفهم معنى الوطن في لحظة الفرح.

الوطن ليس مجرّد نشيد قبل المباراة.

الوطن أيضا كلمة مواساة حين ينكسر أحد الذين غنّوا للنشيد بعرقهم.