story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

تفاوض فيّاض

ص ص

يعرف المغاربة جيّدا معنى أن تتحوّل المقاومة من فعل اضطراري إلى مدرسة تُلهم الأحرار في العالم. فهذا الشعب الذي أنجب محمد بن عبد الكريم الخطابي، لم يكن بحاجة إلى تعريف بحرب التحرير الشعبية، وهو الذي رأى قائد مقاومته يحوّل جبال الريف إلى مختبر سابق لعصره في حرب العصابات.

ولعلّ أبلغ شهادة على ذلك، ما قاله الثائر العالمي تشي غيفارا بنفسه حين اعترف أن تجربته الثورية استلهمت الكثير من عبقرية الخطابي في مقارعة الاستعمار. من هنا، لا يبدو غريبا أن يجد المغاربة في بطولات المقاومة الفلسطينية اليوم صدى لتلك الدروس الخالدة:

الإرادة تفوق العتاد، والكف يمكنه أن يصنع مجده في مواجهة المخرز، متى كانت القضية عادلة والسواعد لا تهدأ.

وعندما تقترن السياسة بالحرب، لا معنى للكلمات ما لم تُكتب بالدم. فبينما كان مجرم الحرب بنيامين نتنياهو يعرض في واشنطن بضاعة النصر الكاذب، ممرّرا سردية القوة والاقتراب من الحسم، ارتدت عليه الحقيقة من حيث لا يحتسب.

هذه الحقيقة لم تأت من مؤتمر صحافي ولا من مكتب المبعوث الأممي، بل من شمال غزة، من بلدة بيت حانون التي ظن الاحتلال أنه أحالها إلى خراب.

في ذلك الليل الذي لا يشبه غيره، نُصبت كمائن النار والعبوات، وسقطت وحدة “نيتسح يهودا” المتغطرسة في فخ أعدته المقاومة بشق الأنفاس. خمس جثث متفحمة لعناصر النخبة في الجيش الإسرائيلي، وأكثر من عشرة مصابين، وحديث عن مفقودين، وصدمة طالت الجنرالات والسياسيين، وسكوت ثقيل خيّم على تل أبيب.

لم تكن عملية بيت حانون هذه مجرّد ضربة عسكرية ناجحة، بل كانت فعلا سياسيا مركّبا بامتياز، بحيث يُعاد تعريف قواعد الاشتباك في أكثر لحظات الحرب حساسية.

لقد ضربت العملية في العمق، لا فقط دبابات الاحتلال، بل أيضا طاولات التفاوض في الدوحة، حيث كانت بعض الوفود تُحضّر أوراق “التسوية” على وقع ضغط الزمن وبؤس الواقع الإنساني.

فجأة، انهارت سردية التفوق الإسرائيلي، وارتبكت حسابات البيت الأبيض الذي كان يراهن على استكمال مشهد “النصر” في غزة.

وفيما كان نتنياهو يُروّج لرواية الحسم القريب، ويطالب بدعم إضافي لإتمام المهمة، جاءت العملية كمطرقة هوت على روايته، وعرّت هشاشة الإنجاز المزعوم.

في لحظة خاطفة، تحوّلت غزة من وضعية المقهور إلى من يصوغ جدول الأعمال بيده، ويُدخل “بيت حانون” كعنوان جديد في ملف التفاوض، لا عبر البيانات، بل من خلال عبوات ناسفة، وكمائن قاتلة، ودماء جنود محترقة.

الميدان الآن يتكلّم، والتفاوض بات يُدار من تحت الأنقاض، لا من فوق منصات الضعف.

بيت حانون، هذه البقعة التي سحقها الاحتلال مرات وادعى القضاء على كل من فيها، تنهض من تحت الرماد. والبلدة التي افتُتح بها العدوان البري في أكتوبر 2023، ولم تبقَ فيها شجرة ولا جدار، والتي قالوا إن كتيبتها أُبيدت عن بكرة أبيها، عادت لتقول للاحتلال: نحن هنا.

حسين فياض، القائد الذي ظهر بعد ثمانية أشهر من إعلان اغتياله، ما زال يقاتل، وما زال يتقن فنّ المفاجأة.

في هذه اللحظة، لا يبدو أن مفاوضات الدوحة تُدار بعيدا عن صوت المعركة. المقاومة تتفاوض الآن من أرض بيت حانون، من أنقاض البلدة التي لم ترَ نوما منذ سنتين. هذه ليست مفاوضات من موقع ضعف، بل استمرار لنهج فرض المعادلات: لا هدنة بلا ثمن، ولا تنازلات تُمنح مقابل وعد كاذب، ولا تفاوض مع يد مكبّلة.

العملية النوعية التي أبادت وحدة “نيتسح يهودا” لم تكن مجرّد كمين ناجح، بل كانت لحظة فاصلة أعادت رسم خريطة الإدراك لدى كل من يتابع هذه الحرب، من العواصم الكبرى إلى مخيمات اللاجئين.

هذه الكتيبة، التي جمعت بين أقصى تطرف ديني وسياسي في المجتمع الصهيوني، وشكّلت نموذجا لعسكرة الإيديولوجيا الدينية الاستيطانية، سقطت تحت أقدام مقاتلين لا يملكون لا طائرات مسيّرة ولا دعما من ترسانة نووية، بل عزيمة لا تلين وإيمانا بعدالة المعركة.

الضربة كسرت هيبة الجيش الإسرائيلي، لا ميدانيًا فقط، بل رمزيا أيضا، إذ لم يعد بوسع تل أبيب أن تروّج لمقولة أن النصر يقترب، أو أن حسم المعركة بات مسألة وقت. كل ادعاءات “تطهير” شمال القطاع، وكل صور الجنود الذين يتنزهون في أنقاض المدن المدمرة، تبخّرت أمام مشهد جنود محترقين في أرض قيل إنها مؤمّنة بالكامل، وتحت سيطرة تامة.

لقد فضحت العملية هشاشة ما كان يُقدَّم على أنه “تفوق استخباراتي وميداني”، وأعادت التأكيد على أن المقاومة تعرف الأرض وتتحكّم في الزمن وتنتقي اللحظة بدقة لا تُضاهى.

لقد بات من الواضح الآن أن الجيش الإسرائيلي لا يسيطر، بل يتخبط، وأنه كلما توغّل أكثر، ازداد تعرّضه للضربات في العمق.

فبيت حانون لم تكن فقط فخًا نُصب في أرض معادية، بل مرآة عكست الحقيقة التي أرادت إسرائيل إخفاءها: أن جيشها بات يقاتل وهو خائف، ويتقدّم وهو مهدَّد، ويتراجع وهو مُهان.

888 جنديا إسرائيليا سقطوا منذ بداية العدوان على غزة، كما قرأت هذا الصباح في مصادر إعلامية إسرائيلية.

هذا الرقم وحده كاف لتقويض سردية “العملية الناجحة”. ولولا الدعم الأمريكي والأوروبي، لكانت إسرائيل قد انهارت سياسيا وعسكريا منذ شهور.

لكن المقاومة، المحاصرة والمجوّعة والمستهدفة من الأرض والسماء والبحر، ما زالت تبتكر، وتهاجم، وتُفاوض من تحت الركام.

عملية بيت حانون اليوم ليست مجرد ضربة عسكرية موفقة. بل لحظة سياسية فارقة تقول بوضوح: الدبلوماسية لا تبدأ من القاعات، بل من الميدان. والكفاح هو الذي يصنع الشروط، والشهداء هم من يفتحون الطريق للقرارات.

ومن يظن أن غزة تفاوض لتتسول هدنة، لم يفهم بعد طبيعة هذا الشعب، ولا فقه هذه الأرض.

هذا درس جديد للعالم، كما هو صفعة جديدة للغطرسة الإسرائيلية.

غزة، برغم الحصار والقصف والتجويع، ما زالت تصنع المعجزات. تقاتل من أرض ميتة، وتُسقط جنودا مدججين بالسلاح، وتفرض كلمتها في الميدان والمفاوضات.

ومثلما كانت خان يونس مفاجأة الشتاء، ها هي بيت حانون توقظ الصيف بلهيب غير متوقع.

هكذا تُكتب المعادلات الحقيقية: بالدم، وبالصبر، وبالإيمان بأن الأرض لا تموت ما دامت فيها جذور مقاومة.