ترامب يقلب الطاولة

في الأسابيع القليلة الماضية، أعلن ترامب عن مجموعة من المستجدات المرتبطة بنزاعات مختلفة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. المشترك بين هذه المستجدات هي أنه لم يكن يمكن تخيلها حتى من طرف أكبر المتفائلين ولو قبل أشهر قليلة سابقة، كما أن المشترك الثاني بينها هي أن الولايات المتحدة توصلت إليها كلها دون العودة إلى حليفها الأول في المنطقة، إسرائيل.
بل إن تقارير صحافية متعددة تتحدث عن قطع الاتصال بين الرئيس ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
أولى هذه المستجدات تتعلق بتعليق أمريكا لضرباتها الجوية تجاه أنصار الله الحوثي في اليمن، بعد أن تعهد الحوثيون بأن يتوقفوا عن استهداف البواخر الأمريكية التي تمر عبر الحدود البحرية لليمن.
المثير في القرار أن الحوثيين لم يتعهدوا بوقف استهداف السفن الإسرائيلية، مما يعني أن أمريكا تفاوضت من أجل مصالحها الخاصة دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح إسرائيل، وهذا يعتبر سابقة تاريخية.
السابقة التاريخية الثانية هي التفاوض المباشر الذي جمع بين الولايات المتحدة وحركة حماس. حيث توصل الطرفان إلى اتفاق يقضي بإطلاق حماس سراح الجندي الأمريكي الإسرائيلي عيدان ألكسندر كلفتة تظهر حسن نية حماس ورغبتها في إيجاد حل للدمار المستمر على قطاع غزة. ويعتبر عيدان أول جندي يتم إطلاق سراحه من طرف حماس منذ بدأ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023. اللافت هو أن الولايات المتحدة لم تبلغ الإسرائيليين إلا بعد التوصل إلى اتفاق بين الطرفين بوساطة قطرية ومصرية.
وفي تطور مهم كذلك، عبر الرئيس ترامب عن رغبته في تجنب الحرب المباشرة ضد إيران وتفضيله لحل سلمي وتفاوضي يضمن عدم تطوير إيران للقنبلة النووية. هذه الرغبة تتعارض تماما مع طموحات نتنياهو الذي ما فتئ يطالب بضرب إيران من قبل إسرائيل وبدعم من الولايات المتحدة. حيث قدم نتنياهو عرضا لترامب في زيارته لواشنطن من أجل ضرب المشروع النووي الإيراني وتحييد قوتها في المنطقة. لكن الإدارة الامريكية رفضت رفضا قاطعا ذلك بسبب رغبة ترامب أن يتجنب النزاعات المسلحة، خصوصا أنه رجل يفضل الاتفاقيات التجارية التي لا تستقيم مع حالة الحرب.
في خطوة أخرى غير مسبوقة تماما، فشل اللوبي الصهيوني في أمريكا في إقناع أعضاء الكونغرس الأمريكي بالتصويت لصالح مشروع قانون يعاقب كل من يدعو إلى مقاطعة إسرائيل بعقوبة تصل إلى عشر سنوات سجنا وغرامة تصل إلى مليون دولار أمريكي. المفاجئ هنا هو أن أعضاء من الكونغرس يعتبرون حلفاء أساسيين لترامب (على سبيل المثال مارجوري تايلر غرين وتوماس ماسي) رفضوا التصويت لصالح مشروع القانون وعللوا ذلك بأنهم لا يمكنهم دعم قانون يخرس أصوات المواطنين الأمريكيين ويمنعهم من ممارسة حقوقهم الدستورية في التعبير.
يجب التفريق هنا بين علاقة ترامب بنتنياهو وبين علاقة الولايات المتحدة ودولة إسرائيل. أي نعم هناك خلاف طفى جزء منه إلى السطح بين ترامب ونظيره الإسرائيلي وهو شيء غير مسبوق في علاقة البلدين. لكن تبقى علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل أقوى من أن تتأثر بشكل كبير من هذه الخلافات الشخصية. ورغم قوة نتنياهو وسيطرته على اليمين في بلاده، إلا أن إسرائيل تستطيع التخلي عنه بسهولة في اللحظة التي تلمس أنه يشكل خطرا على علاقتها بحليفها الأول في العالم، الولايات المتحدة.
لكن الجديد في هذا الموضوع هو تصاعد نسبة الأمريكيين الذين لا يقبلون هذا الدعم اللامشروط الذي تقدمه بلادهم لإسرائيل. حيث أظهرت أحدث استطلاعات للرأي أن أكثر من نصف الأمريكيين يحملون تصورات سلبية تجاه إسرائيل، وهو رقم لم يحصل أبدا في تاريخ العلاقة بين البلدين. وتبقى فئة الرجال البيض الجمهوريين المسنين الفئة الوحيدة التي تحمل تصورا إيجابيا تجاه إسرائيل، والسبب المباشر هو عدم استعمالهم لوسائل التواصل الاجتماعي واعتمادهم شبه الكلي على قنوات يمينية مثل فوكس نيوز من أجل استقاء أخبارهم. هذا يعني أنه إن استمرت إسرائيل في نهج التدمير الذي تسلكه ضد سكان قطاع غزة واعتمادها شبه الكلي على الدعم المادي والعسكري والديبلوماسي الأمريكي، فإنها مهددة بفقدان دعم السياسيين بأمريكا الذين لا يمكنهم معارضة ما يفضله الناخبون الأمريكيون.