story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

بين دفّتي “زمن مغربي”

ص ص

ما الذي يجعل مذكرات سياسيّ مثل فتح الله ولعلو وثيقة استثنائية؟ هل لأن الرجل عاصر ملوكا ثلاثة وكان شاهدا على انتقال المغرب من زمن الاستعمار إلى زمن التناوب؟

أعترف بداية أنني تردّدت لبعض الوقت في الإقدام على قراءة المذكرات الجديدة لفتح الله ولعلو. ولم يكن السبب انعدام الفضول، بل هو تراكم خيبات سابقة، سبّبتها كتب كثيرة صدرت في السنوات الأخيرة عن سياسيين وفاعلين عموميين استهلكوا الورق والحبر في منشورات منمّقة، لا تقول شيئا ذا بال، ولا تجرؤ على البوح بما عاشوه حقا.

كتب تُقدَّم كسِيَر، لكنها تخلو من حرارة التجربة وصدق المراجعة، ولا تترك في القارئ سوى شعور بالخذلان.

أم لأنها سيرة شخص ظل ممسكا بخيوط السياسة والذاكرة الوطنية لخمسة عقود على الأقل؟

أم لأننا، في العمق، بتنا نعيش زمن الصمت، بحيث يصبح الكلام فعلا نادرا، فكيف إذا أتى مؤثثا بهذه الكثافة المعرفية، والقراءة العميقة، والمراجعة الذاتية؟

لكن الحقيقة أن مذكرات ولعلو، ودون ادعاء أنها كشفت كل شيء أو مارست البوح المطلق، بدت من صنف آخر: سردية فيها ما يستحق العناء، فيها روح النقد من الداخل، وفيها شذرات من الاعتراف والتأمل والنقد الذاتي، ما يجعلها نموذجا مختلفا يستحق أن يُقرأ، لا كمجرد وثيقة عن الماضي، بل كمرآة حية لأسئلة الحاضر.

الكتاب الصادر في مجلدين، وبعنوانه اللافت “زمن مغربي”، لا يدّعي سرد سيرة فرد، وإنما يسعى لإعادة بناء زمن بأكمله.

من طفولة في حي العكاري بالرباط إلى قاعات البرلمان، ومن دكّان الحي الذي باع فيه الطفل فتح الله البطيخ، إلى مكاتب وزارة المالية. من ساحات النضال الطلابي في “الأوطم” إلى دهاليز حكومة التناوب، ومن عشق الكرة في ملعب “الربيع” إلى مسالك السياسة الخارجية وتعقيدات العلاقة مع البنك الدولي وصندوق النقد.

نحن أمام ما يشبه موسوعة سردية شديدة الثراء، تروي تاريخ مغرب ما بعد الاستعمار من زاوية نادرة: زاوية ذلك الذي لم يولد في قلب الدولة، بل دخلها عنوة، بعد أن جرّب معارضتها بشراسة، ثم اكتشف حدود المعارضة، فقرر أن يجرّب الإصلاح من داخل الأسوار.

لا أتحدّث هنا عن شاهد محايد، ولا عن مؤرخ أكاديمي يكتب من برج عاجي، بل عن فاعل كان في قلب الحدث، يحمل ندوب المواجهة كما يحمل آثار المساومة.

رجل عاش المسافة المعقدة بين الحلم بالتغيير والانخراط في دواليب السلطة، فصار كلامه، بما فيه من نشوة، ومرارة، ونقد ذاتي، وتأملات متأخرة؛ شهادة مركبة لا تروّج لبطولة، ولا تبرّر هزيمة، بل ترسم لوحة بانورامية لحكاية أمة تحاول، بإصرار وارتباك، أن تبني نفسها في ظل دولة لا تكفّ عن المراوغة.

بل إن أجمل ما في هذه المذكرات، وأندر ما تمنحه للقارئ، هو هذا الإحياء الرصين لفكرة “الشهادة السياسية” التي غابت طويلا عن ثقافتنا المشتركة، وتواطأت على تغييبها أجيال من الفاعلين الذين فضّلوا الصمت بعد التقاعد، تحت ذريعة الحذر أو طمأنينة السلامة.

ففي مشهد مغربي تتراكم فيه الوقائع وتُنسى، وتُرتكب فيه الأخطاء دون أن يعترف بها أحد، تصبح الشهادة الصادقة، حتى لو كانت متأخرة، عملا شجاعا ومؤسّسا.

فتح الله ولعلو، بخياره أن يتكلم، لا ليسجّل أمجاده، بل ليفكّك المسار الذي عاشه، يعيد الاعتبار لفكرة أن الفاعل السياسي لا تنتهي مهمته بخروجه من المنصب، بل تبدأ مسؤوليته الحقيقية حين يتحرّر من التزاماته الرسمية ويصير حرا في قول ما عاشه وفهمه.

والشهادة هنا ليست فقط رواية لما جرى، بل هي مساهمة في صياغة وعي جماعي جديد، يدفعنا لا إلى اجترار الماضي، بل إلى محاكمته، واستخلاص معانيه، حتى لا ندور في الدائرة ذاتها، حيث الجميع يخطئ، ولا أحد يعترف.

ليس سهلا أن يقول وزير مالية سابق إن الدولة “لم تحترم المنهجية الديمقراطية”، أو أن يروي لقاءه مع إدريس البصري حين رفض مرافقته للملك إلى العمرة، أو أن يحكي كيف خسر معركته مع لوبيات داخل حزبه ودولته معا.

ليس عاديا أيضا أن يعترف أحد قادة المعارضة التاريخيين أن “المشكل مع الدولة كان دائما هو مشكل ثقة”، أو أن يشرح بتؤدة كيف فشلت الأجيال المغاربية كلها في تحقيق الوحدة، وكيف بقي المشروع الفلسطيني في قلب كل انكسارات المنطقة.

لا يقدّم ولعلو سردية بطولية أو مثالية، بل يعترف أنه كان بائع دلاح في طفولته، وأنه اعتُقل بسبب جثة مرمية في الشارع وهو طفل في الحادية عشرة، وأنه أخطأ أحيانا، وأن الحركة التي انتمى إليها فقدت بوصلة التغيير في لحظات حرجة.

يعترف ولعلو أيضا أن المشروع الاتحادي عاش تناقضات داخلية عميقة، وأن مآلاته كانت أحيانا على الضد من نواياه.

وفي الخلفية، تتبدى للمطلع ذهنية رجل ظل في منطقة وسطى بين المتديّن والحداثي، بين المناضل والوزير، بين الوطني المنغمس في تربته والمثقف المتطلع إلى العالم.

مذكرات “زمن مغربي” درس في الاقتصاد السياسي بقدر ما هي درس في الأخلاق العامة، وفي نقد الذات، وفي تربية الأجيال على الانتماء النبيل لا إلى الأشخاص، بل إلى الفكرة: فكرة المغرب.

وأخطر ما تقوله هذه المذكرات، وإن بصوت خافت، هو أن النخب الوطنية ليست خارج ما جرى من أعطاب في مسار الدولة، بل هي في قلبه.

لكن الرجل يُقرّ بذلك لا ليجلد ذاته ولا ليشيطن رفاقه، بل ليقول لنا ببساطة: هذا ما عشناه، فافهموا أين أخطأنا، وواصلوا الطريق، إن بقيت فيكم شعلة.

لقد كتب ولعلو، ومعه رفيقه طيلة تسع سنوات من الحكي والإنصات، لحسن العسبي، بدأت ذات لحظة جمعتهما في ضيافة الراحل عبد الرحمان اليوسفي؛ واحدا من أكثر النصوص السياسية المغربية تماسكا وثراء، يعيد الاعتبار لفكرة أن التاريخ لا يُكتب من فوق فقط، بل يكتبه من عاشوا الأرض ونقشوا أقدارهم عليها، حتى ولو كانوا قد أخطأوا المسار أحيانا.

وبينما يتقافز السياسيون المعاصرون من مواقعهم إلى حسابات “إنستغرام”، ويهرب المثقفون من الفكرة إلى اللايك، تبدو هذه المذكرات نوعا من التمرّد الأنيق: تمرّد رجل على الصمت. شهادة من الداخل. لكنها أيضا، بمكر التاريخ، مرآة للدولة.

فمن يجرؤ على أن يقرأ؟