الهلاك يزور إيران

هناك لحظات في السياسة الدولية تشبه ما يسميه الأطباء “نهاية مفعول المُسكّن”، حين يزول أثر الوخزة الكيميائية التي كانت تؤخر ظهور الألم الحقيقي، فينفجر الوجع كاملا بلا هوادة.
هذا بالضبط ما يعيشه الشرق الأوسط اليوم. لقد انتهى مفعول المهدئات التي صنعتها شعارات التطبيع وخرافة التهدئة الإقليمية، وتبخر الوهم الذي صاحب عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، والذي ظن البعض أنه سيعيد ترتيب أوراق المنطقة لصالح «استقرار» مزعوم.
ها نحن الآن أمام انفجار مدوّ كشف هشاشة تلك التفاهمات وأعاد ترتيب الحقيقة: إسرائيل وإيران في حالة صراع وجودي، وواشنطن وتل أبيب لا تتقاسمان كل شيء، بل تتزاحمان على مشهد قيادة المنطقة.
المفارقة أن الغارة الإسرائيلية الكاسحة التي نفذت فجر اليوم الجمعة 13 يونيو 2025، في قلب إيران، عبر مئتي مقاتلة جوية، جرت دون تنسيق مسبق مع واشنطن، كما أكدت الخارجية الأميركية.
بالمقابل، كان اغتيال قاسم سليماني ذات يوم قرارا أميركيا اتخذ بشكل منفرد. هذه الوقائع تؤكد حدود «التنسيق الأبدي» بين الحليفين، وتمنح المنطقة نافذة لفهم أعمق للعبة المصالح، التي قد تنسق حين تتقاطع، وقد تتنابز حين تتنافر.
لكن الأكثر دلالة، هو سقوط أسطورة الخلاف “المُصطنع” بين إسرائيل وإيران، الذي طالما سوقته بعض الأصوات العربية مبررا لاستمرار احتقانها ضد طهران، وفي الآن ذاته ذريعة لتبرير تحالفاتها مع تل أبيب.
الضربة الإسرائيلية على منشآت نووية إيرانية، والتي أسفرت عن مقتل قائد الحرس الثوري حسين سلامي ورئيس الأركان محمد باقري وعلماء ذرة كبار، تقول ما لا تقوله الخطب: الصراع بين الطرفين حقيقي، عميق، ووجودي. وكان بوسع الدول العربية أن تستثمر هذا التناقض الاستراتيجي، فتوازن به علاقاتها وتكبح به تغوّل أحد الطرفين. لكن، وللأسف، اختارت أن تكون مسرحا لهذا الصراع، لا لاعبا فيه.
الغارة الإسرائيلية الهائلة، التي وجّهت وضربات دقيقة على مواقع بالغة التحصين، عرّت هشاشة الدفاعات الإيرانية وأكدت تفوق إسرائيل الجوي الساحق في سماء المنطقة.
في حرب الوكلاء والدبلوماسية، كانت إيران تبدو قوية، مرنة، قادرة على الإيذاء دون تكلفة مباشرة. أما في المواجهة المباشرة، فهي دولة مكبّلة، لا تملك إلا خطابات الوعيد، لأنها تدرك أن أي رد مباشر قد يعني مواجهة مع واشنطن نفسها، وهي معركة لا تستطيع خوضها، مهما علا صراخها.
بهذا الهجوم، تكون إسرائيل قد رفضت سياسة “الاحتواء المؤجل”، وقررت أن تخرج من حالة الترقب إلى الفعل الاستباقي، بعد سنوات من المراوحة بين التسريبات الاستخباراتية والتهديدات الإعلامية.
فالقيادة العسكرية الإسرائيلية، في تصريحاتها الأخيرة، اعتبرت أن البرنامج النووي الإيراني وصل إلى نقطة اللاعودة، وأن استمرار الصمت يعني المخاطرة بوجود الدولة العبرية.
استثمرت تل أبيب ما تعتبره تآكلا تدريجيا للنفوذ الإيراني في ساحات مثل لبنان وسوريا، حيث واجهت طهران نكسات متتالية: انكفاء حزب الله عن المواجهة في الجنوب اللبناني، وتآكل التأييد الشعبي له داخليا؛ مقابل سلسلة ضربات إسرائيلية ناجحة في العمق السوري استهدفت مستودعات السلاح وشحنات الصواريخ، دون رد فعل يُذكر من طهران.
الضربة هذه المرة لم تكن تكتيكية بل استراتيجية بامتياز. وهي ليست مجرد ضربة لإسكات طموح طهران النووي، بل محاولة لإعادة رسم موازين القوى في الشرق الأوسط بأكمله، وإنهاء وهم الردع المتبادل الذي حاولت إيران فرضه عبر أذرعها الممتدة في لبنان واليمن وسوريا والعراق.
فإلى أين تتجه الأمور؟ ثلاثة سيناريوهات ممكنة على الأقل لما ستؤول إليه هذه الحرب الجديدة:
أولا: التصعيد نحو مواجهة شاملة، وهو السيناريو الأكثر خطورة، والأقل احتمالا من الناحية الواقعية، رغم أنه صار مطروحا على الطاولة لأول مرة بهذا الشكل الجدي منذ 2012.
صحيح أن إيران تمتلك قدرات صاروخية ضخمة، وشبكة من المليشيات الحليفة في المنطقة، لكن الدخول في مواجهة شاملة ومباشرة يعني فتح كل الجبهات: من غزة إلى العراق، ومن لبنان إلى الخليج… وهو ما لا تتحمله طهران حاليا، لا عسكريا ولا اقتصاديا، في ظل عقوبات خانقة وسخط داخلي متنام.
أما إسرائيل، فرغم تفوقها العسكري الواضح، فإنها تدرك أن حربا شاملة ستجعلها في مرمى صواريخ دقيقة لا تملك وسيلة فعالة لتحييدها بالكامل، وقد تضطر حينها لطلب تدخل أميركي واسع النطاق، وهو ما لا تريده إدارة ترامب التي تخوض معارك انتخابية داخلية.
ثانيا: احتواء دبلوماسي إقليمي عبر وساطات وتفاهمات غير معلنة، وهو السيناريو الأرجح. فعلى غرار ما حدث بعد اغتيال قاسم سليماني، قد تلجأ طهران إلى ردّ رمزي محسوب، من نوع إطلاق صواريخ محدودة على أهداف إسرائيلية غير مأهولة، أو هجمات إلكترونية قابلة للإنكار، في مقابل وساطات خليجية أو أوروبية لإعادة الهدوء.
هذا السيناريو ينسجم مع السلوك الإيراني التاريخي الذي يفضل تجنب التصعيد المباشر، ويُبقي أوراق القوة بيدها لحروب الوكلاء والمناورات الدبلوماسية. وتفيد تقارير استخباراتية بأن سلطنة عمان وقطر بدأتا بالفعل تحركات في هذا الاتجاه، بموازاة اتصالات أميركية روسية غير مباشرة مع طهران.
ثالثا: انفجار داخلي إيراني يعقّد المعادلة. فضربة بهذا الحجم، أودت بحياة قائد الحرس الثوري ورئيس هيئة الأركان، لا بد أن تُحدث هزّة عنيفة في المؤسسة العسكرية والأمنية الإيرانية، وقد تولّد انقسامات داخل بنية النظام بين التيار المتشدد والحرس القديم.
وإذا تزامن ذلك مع احتجاجات شعبية أو تصدعات في النخبة الحاكمة، فإن طهران قد تجد نفسها في وضع هش يجعلها عاجزة عن الرد، أو يجعل ردها عشوائيا وغير منضبط.
هذا السيناريو، وإن كان لا يُعلن عنه في الإعلام الرسمي، إلا أنه وارد بقوة في حسابات أجهزة الاستخبارات الغربية، التي تراقب إشارات التفكك الداخلي أكثر مما تراقب الصواريخ الباليستية.
في جميع الحالات، لا تعني هذه التطورات فقط اشتباكا إسرائيليا–إيرانيا، بل تعني تحولا استراتيجيا في منطق إدارة الصراع في الشرق الأوسط، حيث تغيب الولايات المتحدة كمظلة ضابطة، وتظهر قوى إقليمية كفاعلين رئيسيين في رسم حدود اللعبة. والمقلق، أن معظم الدول العربية، بدل أن تستثمر هذا التغير لصالحها، تبدو كما لو أنها اختارت أن تكون منصة له، لا لاعبة فيه.
ماذا عن المغرب؟
هل يعنيه ما يحدث في شيء؟
لا يوجد أي صراع يحدث في أية منطقة من العالم يمكن القول إنها لا يعنينا في شيء، بدليل الحرب الروسية الأوكرانية التي كلّفتنا بعض التضخم وكثيرا من الذرائع الحكومية لتبرير “التفرقيش”.
وما يجري بين إسرائيل وإيران ليس صراعا بعيدا عن مصالح المغرب، بل يمسّنا في العمق. فإسرائيل باتت، عمليا وبقوة الأكر الواقع، شريكا للمملكة في البعدين العسكري والأمني، وأي انشغال لها في حرب مفتوحة مع ايران يعزّز هذا التقارب أكثر، بحكم القطيعة المغربية مع ايران وعدم تمتّع هذه الأخيرة بأي تعاطف أو شعبية في الشارع المغربي.
في المقابل، تقارب الجزائر مع طهران قد يدفعها لاستغلال الظرف لتصعيد دبلوماسي أو ميداني، وفقا لمنطق الإسناد أو استغلال الظرفية كغطاء للمناوشة والتصعيد والضغط على الحليف الأمريكي للمغرب.
كما أن أي تهديد لأمن الطاقة في الخليج سينعكس مباشرة على فاتورة المغرب الطاقية، بما لها من تداعيات اقتصادية.
إقليميا، قد تتحول ساحات هشّة مثل الساحل والصحراء في إفريقيا إلى امتداد للصراع، بما يهدد العمق الاستراتيجي المغربي. ويكفي أن نشاهد جلسة الجنرال الأمريكي، قائد “أفريكوم” هذا الأسبوع في الكونغرس الأمريكي، لندرك مستوى تلغيم المنطقة.
وأخيرا، فإن تزايد عدوانية إسرائيل قد يضع الدولة المغربية في موقع حرج إضافي أمام رأي عام متعاطف مع فلسطين.
الخلاصة أن إسرائيل حين تقصف قلب إيران بطائراتها الحربية وتُسقط أهم رموزها العسكرية في ليلة واحدة، وحين تتحول المنطقة إلى ملعب لصراع مباشر دون إذن من واشنطن أو مظلة من الأمم المتحدة، فهذا يعني أن قواعد اللعبة تغيرت، وأن من لا يملك موقعا متقدما في رقعة الشطرنج الجيوسياسية سيُحوَّل إلى قطعة يتم التضحية بها.
التحدي اليوم ليس فقط في الحفاظ على توازن دقيق بين الشراكات الدولية والحساسية الداخلية، بل في بناء قدرة سيادية على المبادرة، وعلى قراءة الأحداث بذكاء، واستباق التهديدات بدل انتظارها.
فمن لا يملك الجرأة على اختيار مكانه في التاريخ، سيجد نفسه في الهامش، يصفق أو يندب. ونحن المغاربة، لا نُجيد لا التصفيق الأجوف ولا الندب العقيم.