المغرب في مواجهة تنزانيا.. خصم صبور لا يهاجم لكنه لا يهرب
بعدما حُسمت هوية خصم المنتخب المغربي في دور ثمن نهائي كأس أمم إفريقيا المقامة حاليًا في المغرب، بات واضحًا أن الطريق نحو ربع النهائي يمر عبر مواجهة منتخب قد لا يحمل تاريخًا قاريًا ثقيلاً، لكنه يملك من الخصائص ما يجعله خصمًا يتطلب قراءة دقيقة، هو منتخب تنزانيا.
مواجهة تبدو على الورق مختلة الميزان، لكنها في منطق البطولات الإقصائية الإفريقية لا تُحسم بالأسماء وحدها، بل بفهم السياق، وطبيعة الخصم، وحدود ما يستطيع فعله وما يعجز عنه.
خارج دائرة الكبار.. بحضور واقعي
لا ينتمي منتخب تنزانيا، المعروف بلقب “نجوم الأمة” (Taifa Stars)، إلى دائرة المنتخبات الإفريقية التقليدية التي راكمت ألقابًا أو حضورًا دائمًا في الأدوار المتقدمة، إذ ظل حضوره في كأس أمم إفريقيا متقطعًا ومحدود الأثر لعقود طويلة.
غير أن النسخة الحالية تمثل بالنسبة له لحظة استثنائية، ليس فقط بسبب بلوغه دور ثمن النهائي، بل لأن هذا التأهل جاء في سياق يعكس تحوّلًا نسبيًا في طريقة تدبير المنتخب لمشاركاته القارية، وانتقاله من دور “المشارك” إلى منتخب يعرف كيف يدير فرصه القليلة بأقصى قدر من البراغماتية.
عانى المنتخب التنزاني، تاريخيًا، من غياب التراكم القاري، سواء على مستوى الخبرة أو النتائج، وهو ما يعود إلى عوامل متعددة، في مقدمتها ضعف الاحتكاك المنتظم بمنتخبات الصف الأول، ومحدودية البنية التحتية مقارنة بعمالقة القارة، إضافة إلى أن معظم مواهبه تلعب في دوريات محلية أو إقليمية متوسطة المستوى، مع استثناءات قليلة لم تحوّل المنتخب إلى قوة هجومية ضاربة.
لكن هذا النقص التاريخي في الرصيد لم يمنعه من الحضور في نسخة لمغرب 2025 من كأس الأمم الإفريقية، بعقلية مختلفة: عقلية الاكتفاء بما هو ممكن، لا مطاردة ما هو غير متاح.
مسار الانضباط بدل المغامرة
يختصر مسار تنزانيا في دور المجموعات فلسفة الانضباط وعدم المغامرة بوضوح. فالفريق لم يقدّم كرة هجومية ممتعة، ولم ينافس على الاستحواذ، ولم يسعَ إلى فرض إيقاعه على خصومه، بل بنى تأهله على الانضباط الدفاعي، وعلى إدارة دقيقة للمباريات، وعلى استثمار الأخطاء الصغيرة التي يمنحها الخصوم تحت الضغط.
لعب منتخب تنزانيا أغلب مبارياته بكتلة دفاعية منخفضة أو متوسطة، مفضّلًا عن إغلاق العمق، والرهان على الهجمات المرتدة، والكرات الثابتة، وترك الكرة للخصم دون شعور بالنقص أو الاستعجال.
من الناحية التكتيكية، يعتمد منتخب تنزانيا على تنظيم دفاعي صارم، بخطوط متقاربة ومسافات قصيرة بين الدفاع والوسط، ما يجعل اختراقه من العمق مهمة معقدة إذا غاب الصبر والدقة.
لا يضغط هذا الفريق عاليًا إلا في حالات نادرة، ويفضّل انتظار الخصم في مناطقه، مع محاولة إجباره على اللعب العرضي، حيث تقل الخطورة نسبيًا. وعند افتكاك الكرة، يكون الخيار الأول هو التمرير السريع نحو الأطراف أو إرسال كرات طويلة في اتجاه المهاجمين، ليس بحثًا عن بناء هجومي معقّد، بل من أجل كسب الوقت، أو خطأ، أو كرة ثابتة يمكن أن تشكّل فرصة حقيقية للتسجيل.
هنا تبرز إحدى أهم خصائص هذا المنتخب: الكرات الثابتة. تعتبرها تنزانيا سلاحها الأكثر واقعية، سواء عبر الركلات الركنية أو الأخطاء الجانبية، مستفيدة من تمركز جيد داخل منطقة الجزاء ومن إصرار بدني واضح.
كثير من لحظات الخطورة التي صنعها منتخب تنزانيا في البطولة جاءت من هذا الباب، وهو ما يجعل الحذر واجبًا على الدفاع المغربي، لأن مباراة واحدة يمكن أن تنقلب بتفصيلة صغيرة من هذا النوع.
نقاط القوة والضعف و.. النجم الوحيد
لا تكمن نقاط قوة منتخب تنزانيا في الإبداع أو الحلول الهجومية المتنوعة، بل في الانضباط، والصبر، والقدرة على اللعب دون ضغط نفسي كبير.
يدخل الفريق التنزاني مواجهة المغرب وهو مدرك أن الترشيحات ليست في صالحه، ما يمنحه هامشًا نفسيًا مريحًا، بعقلية “لا شيء نخسره”، وهي عقلية كثيرًا ما أربكت منتخبات أقوى في تاريخ كأس أمم إفريقيا.
في المقابل، تظهر نقاط ضعفه بوضوح حين يُجبر على التقدم، أو حين يتأخر في النتيجة، إذ يفتقد آنذاك للأدوات اللازمة لقلب المعطيات، سواء من حيث جودة التمرير، أو التنويع الهجومي، أو القدرة البدنية على الحفاظ على النسق العالي طيلة تسعين دقيقة.
على مستوى الأفراد، لا يملك المنتخب التنزاني ترسانة أسماء معروفة جماهيريًا، لكنه يتوفر على عناصر ذات تجربة محترمة، في مقدمتها المهاجم مبوانا علي ساماتا، الذي يُعد أبرز اسم في تشكيلته من حيث التجربة، بعدما خاض مسارًا احترافيًا خارج بلاده.
ساماتا ليس مهاجم سرعة أو مراوغة، بل لاعب تمركز واستغلال أنصاف الفرص، وهو ما يجعله خطيرًا إذا تُرك دون رقابة داخل المنطقة.
إلى جانبه، يعتمد المنتخب التنزاني على لاعبي وسط ذوي أدوار دفاعية صرفة، مهمتهم الأساسية تعطيل لعب الخصم أكثر من صناعة اللعب، إضافة إلى حارس مرمى شكّل عنصرًا حاسمًا في دور المجموعات، بحكم العدد الكبير من التسديدات التي واجهها وقدرته على إبقاء فريقه في المباريات.
ماذا تعني مواجهة تنزانيا للمغرب؟
بالنسبة للمغرب، تمثل مواجهة تنزانيا اختبارًا لنوع مختلف من النضج. التفوق التقني والفردي واضح، وكذلك العمق في دكة الاحتياط والخبرة القارية، لكن التحدي الحقيقي يكمن في كيفية تفكيك خصم منغلق دون الوقوع في فخ الاستعجال.
سيغيّر التسجيل المبكر لهدف معالم المباراة جذريًا، لأنه سيجبر تنزانيا على الخروج من مناطقها، وهو ما لا تجيده، فيما يبقى اللعب على الأطراف، وتدوير الكرة بهدوء، وتجنّب التمريرات العرضية العشوائية، عناصر أساسية لتفادي سيناريو مباراة معقدة تُحسم في التفاصيل، كما كان الحال في مباراة المغرب ضد مالي.
نفسيًا، ورغم الفوز الكبير على زامبيا في آخر مباريات الدور الأول، يدخل المنتخب المغربي المباراة محمّلًا بضغط الأرض والجمهور والترشيحات، مقابل منتخب يلعب بأريحية نسبية.
هذا الفارق يفرض على المغاربة التعامل بذكاء مع فترات الصمت داخل المباراة، ومع احتمال تأخر الهدف، لأن الخصم سيبحث أساسًا عن جرّ اللقاء إلى أطول وقت ممكن دون استقبال أهداف.
في المحصلة، لا يقدّم منتخب تنزانيا نفسه كخصم قادر على مجاراة المغرب في الاستحواذ أو الإيقاع أو الحلول الهجومية، لكنه يملك من الواقعية والانضباط ما يكفي ليعقّد المباراة إذا لم تُدار بعقل بارد.
هي مواجهة بين منتخب مرشّح للقب، ومطالب بتأكيد تفوقه بالفعل لا بالاسم، ومنتخب يعرف حدوده جيدًا ويحاول استثمار كل هامش متاح.
في مثل هذه المباريات، غالبًا ما يكون الفارق الحقيقي هو القدرة على تحويل السيطرة إلى أهداف، لا مجرد فرضها شكليًا.