story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

المغرب الذي نريد

ص ص

الأفراح أيضا تأتي مجتمعة، كما الأحزان تماما. هذا الصباح، حديث المغاربة واحد، وصوت الفرح أعلى من كل الضجيج. فمنتخبنا الوطني لأقل من عشرين سنة حقّق إنجازا غير مسبوق، وعبر إلى نهائي كأس العالم لهذه الفئة، بعد فوزه على فرنسا.

مشهد لا يملّ منه القلب، يذكّرنا أن ما أنجزه الكبار في قطر قبل ثلاث سنوات لم يكن مصادفة، بل ثمرة وعي جديد وثقة جماعية تترسخ في جيل لا يعترف بالدونية ولا بالحدود.

جيل “Z” يعيد اليوم تعريف معنى أن تكون مغربيا: أن تحلم، وتُصرّ، وتفوز بالجهد لا بالصدفة.

لكنّ الفخر لا يأتي من المستطيل الأخضر فقط. فخلال اليومين الماضيين، عشنا مشهدا مؤسسيا نادراً في الرقي والمسؤولية، أعاد إلينا الثقة بأن هذا الوطن لا يزال قادرا على إنتاج المعنى، وعلى الانتصار للقيم حين تتاح له الفرصة. وهذا هو المغرب الذي نريد، لا ذلك الذي يهدّدنا به فاعلون آخرون، لا داعي لذكرهم كي لا يغضب منا رئيس الحكومة (…).

يتعلّق الأمر بما جرى بين الصحافي يوسف الحيرش والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها.

نشر الحيرش، عبر صحيفة “كاب أنفو”، خبرا موثّقا بالمعطيات والوثائق حول صفقة أبرمتها الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، مع المكتب الاستشاري Forvis Mazars بقيمة تقارب 2.4 مليون درهم، هدفها إنجاز خريطة مخاطر الفساد في قطاع الصحة.

وتوقّف الخبر عند معطى بالغ الحساسية: العلاقة التجارية المستمرة بين المكتب نفسه وشركة “أكديطال”، أحد أكبر الفاعلين في القطاع الصحي الخاص، بما يفتح سؤال تضارب المصالح على مصراعيه: كيف نضمن أقصى درجات الاستقلالية في دراسة تُشخّص اختلالات منظومة يتعامل معها أحد أطرافها تجاريا؟

لم يقدّم الحيرش خلاصةً تدين أحدا ولا حكما مُبرما؛ بل استخدم لغة الوصف والتحقّق وطرح شبهةً قابلة للفحص، مستنداً إلى دفتر الشروط الخاصة (CPS) ومعطيات التعاقد المعروفة، ومؤكدا أن الموضوع يمسّ المصلحة العامة ويستوجب شفافية استباقية وتدقيقا مؤسسيا يبدّد أي لبس.

ولم يكن الخبر استهدافا ولا تشهيرا، بل تنبيها مهنيا صدر عن صحافة تؤدّي وظيفتها الطبيعية كـ«كلب حراسة» (Watchdog) للديمقراطية، تلتقط الإشارات الأولى، تدقّ الجرس قبل وقوع الضرر، وتُذكّر بأنّ المصلحة العامة أعلى من أي حساسية إدارية أو تجارية.

لم يتضمن الخبر أحكاما ولا وزّع إدانات؛ بل التزم لغة الوصف والتحقّق، واحترم قرينة البراءة وحقّ الرد، وطرح السؤال في صيغة اشتباه قابل للفحص لا حقيقة مكتملة. هذا هو الحدّ الفاصل بين التشهير والمساءلة: أن تُمسك الخيط دون أن تصنع حبالا، وأن تُبرز احتمال تضارب المصالح دون شيطنة أشخاص أو مؤسسات.

كان جوهر الرسالة بسيطا وواضحا. إذا تعلّق الأمر بصفقة حسّاسة تمسّ ثقة الناس، فإنّ الشفافية الاستباقية واجبة، والمراجعة المؤسسية علامة قوّة لا ضعف. وحين تستجيب المؤسسة المعنية وتُعلن إجراءات تدقيق وتعليقا مؤقتا، فإنها لا تمنح الصحافة نصرا، بل تمنح الدولة نفسها فرصة لتقوية مناعتها الأخلاقية والقانونية.

هكذا فقط تتحوّل الصحافة من خصم مُتخيّل إلى نظام إنذار مبكر يحمي الجميع: المال العام، وسمعة المؤسسات، وحق المواطنين في دولة تحاسب نفسها قبل أن تحاسَب.

والأجمل في القصة أنّ الهيئة لم تتجاهل الخبر، ولم تهاجم الصحافي، ولم تتستّر على الواقعة، بل بادرت إلى إصدار بلاغ رسمي قررت فيه توقيف تنفيذ الصفقة مؤقتا، وإحالة الملف على اللجنة الوطنية للطلبيات العمومية للتحقق من الشبهات وفق المقتضيات القانونية والمعايير الدولية. بل أعلنت التزامها بإخبار الرأي العام بمآل البحث.

خطوة نادرة في محيط مؤسساتي طالما اعتاد الإنكار والتبرير، لا المساءلة والتفاعل.

بهذا السلوك، قدّمت الهيئة ورئيسها محمد بنعليلو نموذجا راقيا في ممارسة المسؤولية العمومية، عبر الإنصات، ثم التحرك، ثم الشفافية. هكذا تُصان الثقة، وليس بالشعارات ولا بالخطابات.

إنه درس بالغ الدلالة في زمن أخذ فيه الإيمان بإمكانية الإصلاحِ من الداخل يتبخّر مع كلّ خيبة، وزمن أنفقت فيه الحكومة زمنها تُسوّق لفكرة قاتمة مفادها أنّ الفساد “قدر وطني” لا فكاكَ منه، وأنّ أقصى ما يمكن فعله هو “التأقلم الذكي” مع أعطابه.

لقد رأينا كيف تحوّل الخلاف مع الهيئة الوطنية للنزاهة، في عهد رئيسها السابق محمد البشير الراشدي، من سجالٍ مؤسساتي مشروع، إلى حرب استنزافٍ عبثية ضدّ تقارير سنويةٍ مزعجة، ومذكرات رأي لا تُساير الرواية الحكومية؛ وانتهى المسار، كما يعلم الجميع، إلى إعفاء جاء بعد سلسلة إشارات مفادها أنّ من يقترب كثيرا من لوحة العدّاد سيُطفأ عنه النور.

ما تكشفه واقعةُ اليوم أنّ الإصلاح من الداخل لم يمت، بل يحتاج فقط إلى “زرّ تشغيل”، وإلى صحافةٌ تؤدّي وظيفة الإنذار المبكر، ومؤسّسة عمومية لا تتبرّم من الأسئلة بل تتلقفها كفرصة للمراجعة، وقواعد تضارب مصالحٍ تُطبّق قبل أن تنفجر الشبهة.

هكذا نستعيد معنى الدولة التي تُصحّح ذاتها بذاتها؛ لا دولة الهروب إلى الأمام والاستسلام لسطوة المصالح. في هذا الميزان، يصبح تعليق صفقة وإحالتها على التمحيص فعل سياسة عموميةٍ رشيدة لا مجرّد استجابةٍ ظرفية، ويغدو الحدث في رمزيته تكذيبا عمليا لأسطورة “القدر المحتوم”، وتذكيرا بأنّ المؤسسات حين تُنصت تنقذ ما تبقّى من ثقة عامة.

بنعليلو يثبت اليوم أن النزاهة ليست معركة خاسرة، وأن المؤسسات يمكنها أن تكون حية ونزيهة إذا توفرت الإرادة.

تماما كما يثبت يوسف الحيرش أن الصحافة ليست جريمة، وأن كلمة تُكتب في الوقت المناسب قد تقي البلد من خطأ، وتوقظ ضمير مؤسسة قبل أن تسقط في الفخ.

نعم، لسنا أمام فضيحة ولا أمام فساد مالي، فكل الأطراف تصرفت ضمن القانون والمساطر، لكننا أمام درس أخلاقي عميق عن معنى الشفافية والمساءلة، وعن قدرة هذا الوطن على تصحيح مساره حين يتحدث ضميره الجمعي بصدق.

في هذا “المغرب الذي نريد”، نحتاج إلى مزيد من هؤلاء: صحافيون يضيئون الطريق دون خوف، ومسؤولون يستمعون دون كبرياء، وهيئات تشتغل كما يجب لا كما يُراد لها.

نحتاج إلى وطن يفوز في الملاعب كما ينتصر في ساحات القيم.

فالوطن الذي يحتفل بأبطاله الرياضيين، يجب أن يحتفي أيضا بأبطاله الأخلاقيين.

وهؤلاء هم الذين يصنعون فعلا، لا بالصدفة، المغرب الذي نريد.