القراصنة يحاصروننا!

في صباح ربيعي ثقيل (بفعل رطوبة الرباط ربما)، وجدت نفسي واقفا أمام باب وكالة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، حاملا وثائق ملف بسيط لا يتطلب في العادة أكثر من بضع ثوان عبر بوابة إلكترونية كنت أستخدمها مرارا.
لكن تلك اللحظة كانت مختلفة؛ فقد كانت البلاد قد دخلت، دون إعلان، مرحلة من الحصار الرقمي غير المعلن، والذي نشعر جميعا كأن إنكاره من شروط الوطنية.
هذا الحصار ليس حدوديا، ولا تجاريا، ولا حتى إعلاميا، بل هو حصار رقمي مكتمل الأركان، أصبحت معه أجهزتنا الذكية فائقة الغباء.
كان أمامي مواطن ستيني، وجهه يحمل ملامح معاناة المغاربة الصامتين: شركة صغيرة، وأمل معلّق في وثيقة إلكترونية، وكرامة تُسحق بصمت البيروقراطية الرقمية حين تنهار.
كان الموظف أمامه يحاول تهدئته بلغة أقرب إلى الاعتراف بالهزيمة منها إلى الشرح التقني: “آ سيدي، مول البلاد راسو (الملك) تسرّبات معطيات شركاتو وما هضرش… وانت ما بغيتش تصبر شوية حتى نأمّنو النظام؟ راه هادشي فمصلحتكم الله يهديكم!”.
أن تسمع هذا الكلام في مؤسسة عمومية هو مؤشر وجودي، ليس فقط على حجم ما نعيشه من اختراق، بل على درجة الاعتياد المرضي على الضعف والانكشاف.
ففي دولة من المفروض أن أمن المعلومات فيها يوازي أمن الحدود، لم يعد غريبا أن يتعرض جهاز وطني بحجم صندوق الضمان الاجتماعي لاختراق يجعل نظامه خارج الخدمة لأيام وأسابيع (الخدمات معطلة إلى غاية كتابة هذه الكلمات)، دون بلاغ رسمي، ودون مساءلة، ودون طوارئ رقمية تُعلن.
ما يجري اليوم لا يمكن وصفه إلا بـ”الحصار الرقمي”. هو ليس حصارا إعلاميا كما ألفناه زمن الحروب الباردة، ولا مقاطعة تكنولوجية من شركات عابرة للقارات، بل هو حصار غير مرئي، يعبث في الخفاء بأنظمة معلوماتية كان من المفروض أن تكون قلاعا منيعة، فإذا بها تُفتح كأنها صناديق صدئة.
لقد تعرّضت معطيات ملايين المواطنين المغاربة للنهب والقرصنة من طرف جهات تُعلن نفسها وتزعم أنّها تحدّد جنسياتها ونواياها، وتُجاهر بأنها تستهدف سيادة الدولة نفسها.
والأخطر من هذا، أن لائحة الضحايا لم تعد تشمل فقط البسطاء والمقاولين الصغار، بل امتدت إلى كبار القوم: قضاة، مسؤولي المخابرات، والقائمين على أجهزة سيادية، وأعضاء في الحكومة (وزير العدل)، بل حتى شركات العائلة الملكية.
كيف يمكن للمواطن المغربي أن يشعر بالأمان، إذا كان حماة المعبد نفسه مكشوفا؟
كيف نطلب من هذا المواطن أن يثق في الدولة وقد رأى أمامه كشوفات رواتب القضاة منشورة على العلن؟
كيف نحفظ كرامة المواطن إذا كانت أسماء أولاد مسؤولي القضاء والمخابرات والوزراء متاحة في “الداتا بيز” المسربة، تُباع وتُشهر كأنها بطاقات تعريف في سوق الفوضى الرقمية؟
الأخطر من هذا كله، أن الدولة تبدو كمن قررت ألا تعلن أي شيء، باستثناء ما انتشر أمس من اعتزام النيابة العامة فتح تحقيق بشأن اختراق قواعد بيانات قضائية.
لا وجود لخطة تواصل وطنية تشرح ما يجري، ولا بلاغات طمأنة، ولا مساءلات في البرلمان، ولا تحذير أو تنبيه عمومي… فقط صمت وموظفون يعوّضون عطب النظام الرقمي بخطب “تهدئة” وتبريرات توحي بأن الاختراق لم يعد حدثا، بل صار مناخا عاما علينا أن نتأقلم معه كما نتأقلم ومع ارتفاع حرارة الأرض.
في البنوك، حيث كان تحميل كشف الحساب لا يتطلب سوى لمسة إصبع، أضحى العميل يضطر للتنقل وانتظار الطباعة، في صمت مشوب بالغضب.
وفي وكالات المحافظة العقارية، عُلّقت خدمات أساسية، بالنسبة للموثقين والمعاملات العقارية، حتى قبل أن تتسرب آلاف الوثائق الحساسة التي تهم الملكية العقارية للمواطنين.
وفي الكواليس، تؤكد مصادر من داخل بعض المؤسسات الحيوية أن أنظمة معلوماتية جرى توقيفها وإغلاقها أمام المرتفقين والشركاء، وقائيا بعد ورود إشارات مؤكدة على نية اختراقها.
إذا وسّعنا زاوية النظر، سنرى أننا نعيش اليوم في ظل هشاشة رقمية قاتلة، تُهدد الأمن الوطني بنفس الحدة التي تهدده بها الجماعات المتطرفة أو عصابات المخدرات.
ولأن العالم صار رقميا، فإن أي خلل في بنية الدولة الرقمية هو انهيار محتمل في وظائفها الحيوية: العدالة، والتأمين، والصحة، والاقتصاد، والنقل، والتعليم…
كل شيء مرتبط الآن بخيوط شفافة تتحكم فيها خوادم وشبكات ومعطيات، فإذا تم اختراقها، فلا فرق بين فقدان مفتاح بيتك وفقدان بوابة مستشفى أو خريطة عقار أو حساب بنكي.
لقد أصبح أمن البيانات اليوم هو السيادة الجديدة. وعندما تصبح هذه السيادة مخترقة من جهة وتُقابل بصمت رسمي من جهة أخرى، فنحن لا نعيش فقط حالة طوارئ رقمية، بل حالة إنكار جماعي.
فهل سنواصل العيش في هذا الحصار الصامت، أم أن أحدا سيُعلن أخيرا أن المغرب يتعرض لحرب رقمية فعلية، تستوجب الردّ والتأمين والمحاسبة؟