العيد كاين

أستسمح رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، في استعارة عنوان هذا المقال من عبارته الشهيرة التي قالها ذات جلسة برلمانية السنة الماضية، مدافعا عن إقامة شعيرة عيد الأضحى “رغم الداء والأعداء”.
يومها وقف أخنوش أمام “ممثّلي الأمة” و”خرّج” عينيه وقال أن العيد كاين رغم الصعوبات، وبالفعل كان له ذلك، قبل أن نكتشف بعد بضعة شهور، أننا خسرنا قرابة نصف القطيع الوطني من المواشي، واللحم الأحمر أصبح أندر من بيضة الديك، ووحدهم “الفراقشية” حصلوا على أموال الدعم، المباشر وغير المباشر، و”باعوا وراحوا”.
لكن المقصود بهذه العبارة في هذا المقال، هي الردّ على بعض الأصوات المتنطّعة التي لا تميّز بين إجراء احترازي ومحدود ومؤقت يهمّ تجنيب المغرب إبادة ما تبقى من قطيعه من المواشي، وبين لحظة احتفالية يمكن اعتبارها الأهم على الإطلاق في السنة بالنسبة لقسم كبير من المغاربة.
العيد “كاين” ويجب أن يكون لحظة جماعية نستعيد فيها ما تبقّى من إنسانيتنا، لا اختبارا قاسيا للقدرة على الذبح أو التظاهر بالوفرة.
من لا يعرف المغاربة حق المعرفة، يظن أن بإمكانك أن تدير لهم ظهر الدولة وتقول لهم: لا تفعلوا، فيتصرّف كأي قطيع من الروبوتات ويُجيبون فورا: حاضر سيدي.
هذا بعضٌ من كثيرٍ من النظرات المختزِلة التي تصنّف الإنسان المغربي كرقم ضمن قطيع، يُنتظر منه الانقياد والطاعة حين يعلو صوت السلطة. لكن ما حدث مع قرار الملك محمد السادس، الداعي إلى الامتناع عن ذبح أضاحي العيد هذه السنة، أثبت أن المغاربة ليسوا مجرّد رعية تستجيب للزجر، بل مجتمع يزن الظروف، ويختبر الخطاب، ويطوّع العادة إلى العقل، لا العكس.
القرار الملكي كان خطوة ضرورية وفعّالة، لا فقط من زاوية الحفاظ على القطيع الوطني من الإبادة، ولكن لأنه خفّف من وطأة الحرج الاجتماعي الذي كان سيقع فيه كثير من أرباب الأسر، وهم يواجهون غلاء فاحشا، وشحًا غير مسبوق في العرض، وسوقا تحت سيطرة “الفراقشية”. هذا أهم ما في القرار الملكي كخطوة رمزية ومعنوية، أما توفير مادة غذائية أساسية وحماية القطيع الوطني وتجديده فهي واجبات تقع علي عاتق الدولة وعليها القيام بها دون تحميل المواطن أي عبء إضافي.
لذلك، فالقرار الملكي لم يكن منعا، بل كان رفعا للحرج، وتيسيرا على الناس، وكسرا للتقليد الذي تحوّل عند البعض إلى واجب اجتماعي أثقل من عبء الدين نفسه.
لقد كنتُ شخصيا من الداعين إلى هذه الخطوة قبل صدورها، لا لأن المغاربة ينتظرون من يمنعهم، بل لأن كلمة الملك تُحرّر، وتُطمئن، وتمنح فرصة للناس كي لا يُلاموا حين يعجزون.
ومع ذلك، لا وجود لظهير ملكي ولا قانون يمنع ذبح الأضاحي، وإنما هي دعوة دينية وأخلاقية من أمير المؤمنين… دعوة ذات أثر كبير ومعنوي بليغ، لكنها لم تكن أبدا إلغاء للعيد.. العيد باق يا سادة، بروحه وتقاليده ومائدته وطقوسه. العيد كاين، ولو بدون سكاكين.
وإذا كان الذبح أحد أركان هذه المناسبة، فإن ما يحيط به من اجتماع، وتآزر، ولمة عائلية، وطبخ جماعي، وسهرات مشتعلة بـ”المجمر” وعبق “بولفاف” أو نقانق أو حتى قطع من لحيم أبيض، لا يقل أهمية في تشكيل هذه الذاكرة الجمعية المغربية.
أصادف منذ أيام محتويات كثيرة في المنصات الرقمية تتحدّث عن ارتفاع صاروخي في أسعار “الدوارة” كأننا أمام بورصة لمعدن نفيس، وهو ما دفعني نهاية الأسبوع الماضي إلى القيام بجولة بين عدد من المدن القريبة من الرباط وصولا إلى أحد المتاجر الكبرى وسطها، فوجدت أن هناك بعض الارتفاع في الأسعار، وهذا طبيعي وبديهي في ظل ارتفاع الإقبال مع اقتراب العيد، لكنني لم أجد أثرا لتلك الأسعار التي تتحدث عنها هذه المنصات.
أقصى ما وقفت عليه هو 98 درهما للكيلوغرام الواحد من “الدوارة”، ما يجعل تلك التي يبلغ وزنها خمسة كيلوغرامات لا تصل إلى 500 درهم، بينما أوصلتها بورصة التيكتوك والانستغرام إلى ما يقارب الألف درهم.
بل إن لقطة مباشرة صادفتها أمس من أحد الأسواق الأسبوعية القروية، تكشف كيف أن “دوارة” كاملة تُباع مقابل 250 درهما، و”لا غلا على مسكين”. وحدهم شنّاقة البوز يرفعون أسعار المزاد.
ثم كيف لنا أن نردد بشكل جماعي قبل أسابيع قليلة، أرقام المندوبية السامية للتخطيط، والتي تقول إن نسبة متزايدة من المغاربة لم تعد تقدم على ذبح أضحية العيد، في السنوات التي لم يكن فيها خصاص ولا غلاء ولا قرار ملكي بعدم الذبح، ونأتي اليوم لنهوّل من بعض المظاهر الاحتفالية البسيطة وندسّ أصابعنا في آذاننا ونصرخ: واك واك إنهم يبيدون القطيع؟
إن إقامة شعيرة ذبح الأضاحي تعني تمرير السكاكين فوق نحور ستة ملايين بهيمة، بين أغنام وأبقار وماعز وربما جمال، وهو ما يفوق مجموع ما نذبحه من مواشي خلال باقي أيام السنة كلها، بولائمها وأعراسها وحفلات عقيقاتها… وهو ما يستحيل أن يحدث ولو بنسبة عشرة في المئة منه في ظل القرار الملكي وقلة العرض وغلاء الأسعار وهذا الارتياح الجماعي الذي انتشر في أوصال المجتمع بعد صدور القرار الملكي.
بل إن الأرقام تقول إن مجموع ما نستهلكه خلال السنة لا يتجاوز العشرة ملايين رأس من المواشي، أي أن شعيرة ذبح الأضاحي في العيد هي التي كانت تستهلك القسم الأكبر، وهو ما لن يحصل بأي شكل من الأشكال اليوم، فاتركوا الناس يخلقون فرحتهم الصغيرة، كل حسب إمكانياته، بعيدا عن النكد والتهويل.
ما ينساه البعض هو أن القرار الملكي يتعلق بالامتناع ما أمكن عن ذبح الأضاحي، وليس إلغاء العيد. العيد موجود هذه السنة، ومن حق الناس، رغم المآسي والضغوط والغلاء، أن تعيش حياتها الاجتماعية وتنال من الاحتفال نصيبا ولو بمظاهر جزئية.
من حق المغاربة أن ينالوا الاعتراف بالوجه الاجتماعي لأعيادهم، بما فيها الأعياد الدينية، ولعل ما يحصل هذه السنة فرصة لتحرير شعيرة دينية من ثقل القيود والترسبات المنطوية على كثير من النفاق والتدليس على الدين نفسه.
نحن مجتمع كباقي مجتمعات العالم، لدينا مرجعيتنا الدينية وعباداتنا وشعائرنا، لكن لدينا أيضا موروثنا الثقافي وعاداتنا وتقاليدنا، في اللباس والطبخ والأكل… وهو جانب لا ينطوي على أي عيب حتى نبذل جهدا كبيرا لإخفائه خلف شعيرة دينية مثل ذبح أضاحي العيد.
من حق الناس أن تقيم قدرا من المظاهر الاحتفالية وتستحضر عاداتها الغذائية وتلتئم حول موائدها، دون أن يعني ذلك بالضرورة “كسر” كلمة الملك أو التمرّد على قراره الديني بالنيابة عن المجتمع في إقامة هذه الشعيرة.
بدل نشر النكد، فلنحوّل المناسبة إلى فرصة للتكافل وتقاسم الأعباء والأطباق، وإعادة الاعتبار للبعد الاجتماعي للعيد، كمساحة فرح جماعي لا تحدّها الذبيحة ولا يختصرها الخروف.
العيد كاين… وبفرحنا الصادق نكسبه.