“العبيد” وهشاشة إسرائيل

“إسرائيل معزولة… المجتمع الدولي غاضب.. وحتى ترامب، الذي وقف إلى جانب إسرائيل بطريقة لم يفعلها أحد غيره تقريبا، قرر المُضي قدمًا في مخططه الكبير للشرق الأوسط دون إشراكنا”.
الحديث هنا ليس لقومجي أو إسلاموي أو إخوانجي، بل هو للصحافي الإسرائيلي-الأمريكي ياكوف كاتس، رئيس التحرير السابق لصحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية، خلال الفترة من 2016 حتى 2023، وهو المحلل المرموق والمعتمد لدى كبريات المؤسسات الإعلامية والأكاديمية الغربية، وصاحب عدد من الإصدارات والكتب حول إسرائيل.
قبيل جولة ترامب في منطقة الخليج الأسبوع الماضي، اعتبر البعض كل الأنباء الموثوقة التي تسرّبت حول تغيّر سلوك الإدارة الأمريكية تجاه حكومة نتانياهو الإسرائيلية، مجرّد دعاية وتضليل لتنويم شعوب المنطقة العربية وتمهيد الطريق أمام الرئيس الأمريكي، كأننا نملك في ميزان القوة ما يُجبر الآخرين على تضليلنا أو تنويمنا.
وها هي ذي الجولة قد تمّت وفجّرت ألغاما لم يكن أكثر الإسرائيليين تشاؤما يتوقّعونها، وها هي دول العالم الغربي تخرج فرادي وجماعات لاستنكار الهمجية الإسرائيلية والضغط لوقفها، فماذا أنتم قائلون؟
لقد كتبنا هنا في هذا الركن عن مقال “بي بي سي” الذي أسهب في شرح لماذا بات الدعم الأمريكي الأعمى لإسرائيل ذكرى من الماضي، واستشهدنا بافتتاحية “فاينانشال تايمز” التي عبّرت عن بوادر صحوة في الضمير الغربي، ونشرنا في حساباتنا في الشبكات الاجتماعية مقتطفات من قصاصة لوكالة “رويترز” البريطانية المعززة بالمصادر المتعددة، وها هي اليوم أصوات تخرج حتى من صفوف اليهود المؤيدين لإسرائيل، مثل الصحافية الفرنسية الشهيرة “آن سان كلير“، لتتبرأ من جرائم نتانياهو.
لكنني ولأول مرة منذ شهور، أجد نفسي أمام مشهد عبثي يتجاوز كل التوقعات: الموالون لإسرائيل في منطقتنا، أولئك الذين طالما هلّلوا لتفوّقها العسكري وباركوا “حقها في الدفاع عن نفسها”، يتطابقون الآن، بشكل مدهش، مع بعض المدافعين عن القضية الفلسطينية، في إنكارهم الصارخ للمأزق الذي تعيشه إسرائيل اليوم.
كلا الفريقين، على اختلاف دوافعهما، يرفضان الاعتراف بأن إسرائيل باتت في عزلة دولية خانقة، تُدان في العلن وتُستثنى من المعادلات الجديدة، ويُوجَّه إليها التهديد بالعقوبات من أقرب الحلفاء.
“لقد تلقت إسرائيل اليوم صفعة قاسية: صبر العالم نفد. والحقيقة أن حتى دونالد ترامب، الذي طالما اعتُبر الحليف الأقرب لإسرائيل، بات هو الآخر محبطا، كما يُقال، وهذا وحده يجب أن يدق ناقوس الخطر في القدس”، يقول ياكوف كاتس، هذا الرجل أطلق أمس صرحته عبر حسابه في موقع “إكس”، معتبرا أن الحرب الإسرائيلية على غزة نجمت عمّا أسماه “أكبر فشل عسكري وسياسي في تاريخ “الدولة الإسرائيلية”، بينما أنتم تشكّون!
بكل صدق وصراحة، من المثير للشفقة أن البعض بيننا ما زالوا يضعون أصابعهم في آذانهم، ويردّدون كالببغاوات أن كل ما يُقال عن تهميش إسرائيل وتراجع مكانتها لدى حلفائها الغربيين ليس إلا “دعاية معادية” و”حربا إعلامية”…
هؤلاء لا يقرأون خرائط العالم بل يعبدون خرائط عقائدهم. ولا يشاهدون الوقائع بل يُفسّرونها بما يرضي هواجسهم.
كيف لعاقل أن يُكذّب كل هذا السيل من الأخبار المؤكدة، وتحذيرات قادة من الوزن الثقيل، وتهديدات صريحة بالعقوبات، ثم يأتي ليقول لك بثقة العاجز إن “الغرب لن يتخلى عن إسرائيل”!
لا أحد قال إن الغرب انقلب إلى ملاك رحيم، لكن من يستطيع أن يُنكر أن إسرائيل لم تعد ذلك الطفل المدلّل الذي يُسمح له بتكسير النوافذ دون حساب؟
من يرفض رؤية هذا التحوّل، لا يدافع لا عن فلسطين ولا عن إسرائيل، بل يُمعن في خداع نفسه… والعالم لم يعد ينتظر أحدا.
الموالون لإسرائيل ينكرون لأنهم لا يحتملون فكرة تراجع “المعجزة الصهيونية”، وبعض المدافعين عن فلسطين ينكرون لأنهم لا يصدّقون أن هذا التراجع يمكن أن يحصل دون أن يُحسم بسلاح أو بصاروخ.
والنتيجة: كلاهما يشيح بوجهه عن الحقيقة، ويتعامى عن لحظة تاريخية يُفترض أن تُقرأ بتمعّن لا أن تُطمر تحت ركام الإنكار.
بنيامين نتنياهو بات اليوم معزولا، والضربات لم تأت فقط من الخصوم أو المنظمات الدولية، بل من قلب ما كان يُعتبر “المعسكر المضمون”: حلفاء إسرائيل التقليديون في الغرب، تتقدّمهم بريطانيا وفرنسا وكندا، الذين يلوّحون اليوم بما لم تجرؤ عليه لغة البيانات سابقا: “إجراءات ملموسة”، عقوبات محتملة، وإدانة علنية لما أسموه “المعاناة التي لا تُطاق” في غزة و”التصرفات المشينة” للجيش الإسرائيلي.
أما أميركا ترامب، التي كان يُظن أنها الملاذ الأخير، فقد بعثت برسالة قاسية ومهينة: لدينا خرائط جديدة لا تشملك.
المفارقة الصارخة أن هذه العزلة ليست نتيجة تحوّل أيديولوجي في العواصم الغربية، بل نتيجة منطقية لانهيار استراتيجية إسرائيل في الحرب على غزة، وتحوّلها إلى مدخل لتهديد المصالح الغربية في لحظة يعاد فيها ترتيب النظام العالمي.
إن إسرائيل باتت اليوم عقبة في وجه مصالح الغرب لا كلاعب في صفوفه. إنها عقبة أمام وقف الحرب، عقبة أمام حدوث أي تطبيع جديد، وعقبة حتى أمام رؤية أميركية أقل أيديولوجية، تقيس التحالفات بموازين المال والاستثمار والتكنولوجيا.
وما يجري اليوم ليس أزمة علاقات عامة، ولا مجرّد خلاف عابر مع إدارة ترامب الجديدة، بل نهاية مرحلة كان فيها نتنياهو هو المايسترو الوحيد في الحفل الأميركي الإسرائيلي.
لا أحد الآن في واشنطن مستعدٌ لتقديم شيك على بياض لحكومة يُنظر إليها دوليا كأداة في يد اليمين المتطرف، ولا أحد في الخليج مستعدٌ للمجازفة بتوازناته الحساسة من أجل رئيس وزراء يرفض حتى أن يطرح خطة لـ”اليوم التالي” في غزة.
هل نحن أمام لحظة سقوط نتنياهو؟ ربما. لكن الأهم أن الشرق الأوسط يتحرك، يتحول، ويتشكل، و”دولة الاحتلال” تتراجع إلى الهامش.
هذه ليست دعوة للتفاؤل الكاذب، ولكنها فرصة لفهم لحظة نادرة: حين يدير التاريخ وجهه عن قوّة ظنّت أنها فوق المحاسبة، وفوق الإرادة الجماعية للمنطقة والعالم.
هناك حكمة تقول إن العبيد لا يرون هشاشة السلاسل، بل يخافون من اليوم الذي تُكسر فيه. ولا أجد عبارة أبلغ من هذه لوصف حال بعض الأصوات التي ترفض، بإصرار مؤلم، الاعتراف بأن إسرائيل اليوم تُحاصَر وتُعزل ويُهدَّد قادتها من قبل أقرب الحلفاء.
هؤلاء لا يرون الضغوط الغربية، ولا يسمعون التهديدات بالعقوبات، ولا يعترفون بالمفاوضات الجارية من دونها.
كل ذلك بالنسبة لهم مجرد “ضجيج إعلامي”، لأنهم ببساطة تعوّدوا أن يروا في إسرائيل كيانا لا يُمسّ، وجيشا لا يُهزم، وحليفا لا يُخذل… إنه مزيج مرّ من متلازمة ستوكهولم ونظرية التعلّق المرضي بالقوة.
كأنهم يخافون من فكرة انهيار تلك الصورة، لا لأنهم جميعا يحبّون إسرائيل، بل لأن كسر تلك السلسلة يعني أيضا سقوط تفسيراتهم المريحة للواقع، وانكشاف عجزهم أمام لحظة تستدعي الفهم، لا التمسّك بالأوهام.