الصحة من حق إلى سلعة.. قراءة سوسيولوجية في تمرد جيل Z على تدهور المنظومة الصحية في المغرب

إن ما يشهده المغرب اليوم من حراك شبابي متنام، تقوده بالأساس فئة جيل Z، لا يمكن قراءته فقط في ضوء المطالب القطاعية أو المهنية، بل يجب فهمه في إطار تحول أعمق يمس علاقة المواطن بالدولة من خلال جهازها الصحي الذي مثل، تاريخيا، أحد أعقد أجهزة الضبط الاجتماعي وأكثرها حساسية. فحين يعجز هذا الجهاز عن أداء وظيفته في الحماية والرعاية، يتحول من أداة استقرار إلى مسرح للتوترات الاجتماعية.
لم تكن الصحة يوما مجرد وظيفة بيولوجية أو خدمة تقنية، بل هي رأسمال اجتماعي-سياسي مركزي يبنى عليه توازن المجتمع واستمرارية أنماط إنتاجه وإعادة إنتاجه. فهي رأسمال رمزي يعبر عن قيمة الحياة، ورأسمال اقتصادي يحدد قدرة المجتمعات على ضمان اليد العاملة السليمة، ورأسمال سياسي يعكس مدى شرعية الدولة في حماية مواطنيها. ومن هنا تبرز حساسية النظام الصحي مقارنة ببقية الأنظمة (التعليمي، الاقتصادي، الإداري…إلخ)، إذ إن أي اختلال فيه يترجم فورا إلى تهديد مباشر للتماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي، كما برهنت تجارب تاريخية مغربية وعالمية.
- من الحق الاجتماعي إلى السلعة
مع توسع علاقات الإنتاج الرأسمالية في القرن العشرين، واندماج الطب في منطق السوق والعقلانية البيروقراطية الحديثة، فقدت الصحة طابعها الأخلاقي والحقي، وتحولت إلى سلعة استراتيجية، يتم تحديد قيمتها وفق منطق العرض والطلب، والقدرة على الدفع، لا وفق مبدأ العدالة الاجتماعية أو الحماية الجماعية. أصبحت حياة الأفراد وأجسادهم موضوعا للحسابات الاقتصادية، وامتدت سلطة السوق إلى أكثر المجالات حميمية: المرض، الألم، الولادة، الشيخوخة، والموت.
في المغرب، تجسد هذا التحول منذ ثمانينات القرن الماضي، مع تطبيق برامج التقويم الهيكلي، وتقليص الإنفاق العمومي، وفتح المجال أمام القطاع الخاص ليملأ فراغ الدولة. تدريجيا، تراجعت الصحة العمومية من كونها حقا جماعيا إلى أن أصبحت مسؤولية فردية، بينما ارتفعت كلفة العلاج، وازدادت الفوارق المجالية والاجتماعية في الولوج إلى الرعاية الصحية. هذه الوضعية عمقت هشاشة الفئات الوسطى والفقيرة، التي صارت تواجه المرض دون شبكة حماية حقيقية.
- تطبيب الحياة: إخضاع اليومي للخطاب الطبي
في هذا السياق، ظهرت ظاهرة ما يسميه علماء الاجتماع بـ تطبيب المجتمع (médicalisation de la société)، أي تحويل مختلف مناحي الحياة إلى قضايا طبية خاضعة للضبط المهني والخطاب العلمي الطبي. لم يعد الطب يقتصر على علاج المرض، بل أصبح يتدخل في أدق تفاصيل الحياة: من الولادة إلى الموت، مرورا بالجمال، السلوك، العواطف، الشيخوخة… إلخ.
تحول الجسد إلى موضوع مراقبة تقنية، والفرد إلى “مشروع مريض”، تخضع حياته اليومية لمسارات تشخيص، وعلاجات متخصصة، واستشارات مستمرة، في ظل سلطة معرفية-مؤسساتية قوية. هذه السلطة تمارس نوعا من الهيمنة الرمزية التي تجعل المواطنين يقبلون بالخضوع للخبرة الطبية دون مساءلة، وتعيد إنتاج تبعية المجتمع للأطباء، وشركات الدواء، والمصحات الخاصة، التي باتت تتقن استراتيجيات التسويق الصحي، وتستثمر في مشاعر الخوف الاجتماعي من المرض، لتوسيع دائرة الزبناء والربح.
لقد أصبحت تجارة المرض تضاهي تجارة السلاح من حيث الحجم والموقع الاستراتيجي، وأضحى النظام الصحي جزءا من بنية اقتصادية عالمية تعيد ترتيب أولويات المجتمعات تحت ضغط السوق لا تحت منطق العدالة الصحية.
- السياق المغربي: تآكل العمومي وبروز الغضب الجيلي
في المغرب، لم تؤد هذه التحولات إلى تحسين مؤشرات الصحة الجماعية، بل بالعكس، أدت إلى تعميم الهشاشة الصحية. المستشفيات العمومية تعاني نقصا حادا في الموارد البشرية والتجهيزات، وتفاوتا مجاليا صارخا، وانقطاعات متكررة في خدمات الطوارئ والولادة. وقد كشفت جائحة كوفيد-19 حجم الخصاص البنيوي، كما عرت حجم التفاوت الصارخ بين القطاعين العمومي والخاص، وبين المراكز الحضرية والجهات المهمشة.
في هذا السياق، برز جيل Z المغربي بوصفه فاعلا اجتماعيا جديدا، يعبر عن غضبه من تردي الخدمات الصحية العمومية ليس من خلال قنوات تقليدية، بل عبر حراكات ميدانية، ومنصات رقمية، وموجات احتجاجية ذات طابع أفقي ولا مركزي. هذا الجيل، الذي نشأ في عالم رقمي مفتوح على التجارب العالمية، بات أكثر وعيا بكون الصحة حقا اجتماعيا لا سلعة، وأكثر قدرة على فضح الفوارق البنيوية وربطها بالعدالة الاجتماعية.
تجلى هذا الحراك في موجات غضب محلية بعد وفيات ناتجة عن الإهمال أو سوء الخدمات في مستشفيات إقليمية، وفي شعارات تُحمِّل الدولة مسؤولية التخلي عن وظيفتها الحمائية. هذا الوعي الجيلي يعيد إدراج سؤال الصحة ضمن سوسيولوجيا الاحتجاج، ويكشف أن النظام الصحي ليس قطاعا تقنيا فحسب، بل موقعا مركزيا للصراع الاجتماعي والسياسي.
- حساسية النظام الصحي وتأثيره على الاستقرار
تظهر التجارب العالمية أن انهيار النظام الصحي يشكل أحد أسرع المؤشرات التي تسبق الهزات الاجتماعية الكبرى.
على الصعيد المقارن، توضح تجارب عالمية أن الأزمات الصحية ليست مجرد مؤشرات قطاعية، بل محركات تاريخية للتغيير الاجتماعي والسياسي. فالأوبئة الكبرى في أوروبا (الطاعون، الكوليرا، الإنفلونزا الإسبانية…) دفعت الدول إلى بناء مؤسسات الصحة العمومية باعتبارها أدوات للحكم والسيطرة الاجتماعية (وفق منظور ميشال فوكو حول»البيوبوليتيك «Biopolitique/وفي المقابل، أدت سياسات الخوصصة المفرطة في أمريكا اللاتينية خلال التسعينيات إلى انتفاضات شعبية هزت استقرار الأنظمة بسبب انهيار خدمات الصحة الأساسية، كما حصل في بوليفيا والبرازيل والبيرو. أما جائحة كوفيد-19 فقد شكلت، في الدول التي أضعفت منظوماتها الصحية العمومية (مثل الولايات المتحدة أو الهند)، مرآة قاتمة لفشل النيوليبرالية الصحية وأطلقت موجات احتجاجية غير مسبوقة.
في المغرب، يتكرر المشهد لكن بخصوصيات محلية. فالمسار النيوليبرالي منذ الثمانينيات قاد إلى تآكل تدريجي للدولة الاجتماعية خصوصا في القطاع الصحي. وفي مقابل الوعود السياسية الطموحة (مثل التغطية الصحية الشاملة)، يعيش المواطنون يوميا واقعا يتسم بانهيار البنية التحتية الصحية، خصاص مهول في الموارد البشرية، مركزية مفرطة وضعف الحكامة. هذه التناقضات بين الخطاب الرسمي والممارسة اليومية ولدت وعيا نقديا جديدا لدى جيل Z، الذي لم يعش مرحلة الدولة الوطنية التضامنية، بل ولد في سياق السوق واللامساواة، ما جعله أكثر قدرة على تفكيك الخطاب الرسمي وفضح مفارقاته.
- من نقد التطبيب إلى استعادة الحق في الصحة
من منظور سوسيولوجيا الصحة والمرض، لم تعد المسألة الصحية مسألة طبية فقط، بل أصبحت موقعا للصراع حول توزيع السلطة والموارد والمعنى. فالصحة اليوم تحدد من يملك حق الحياة الكريمة ومن يترك لمصيره البيولوجي. وهذا ما يجعل النظام الصحي أكثر حساسية من أي نظام قطاعي آخر: ففشله لا يترجم فقط في مؤشرات التنمية، بل في انهيار روابط الثقة والشرعية التي تشد النسيج الاجتماعي والسياسي.
إن جيل Z، في هذا السياق، لا يحتج فقط من أجل مستشفى مجهز أو طبيب قريب، بل يطالب ضمنيا بـ إعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس العدالة الصحية. فالصحة أصبحت مرآة لكل التفاوتات البنيوية: الطبقية، المجالية، الجندرية، والسياسية. ولذلك فإن أي إصلاح صحي لا يضع هذه الأبعاد في صلبه، سيظل إصلاحا تقنيا هشا، غير قادر على تهدئة الحركات الاجتماعية أو ضمان استقرار مستدام.
إن ما نعيشه اليوم ليس مجرد»ترد للخدمات الصحية «، بل تحول سوسيولوجي عميق: من دولة كانت ترى في الصحة العمومية ركيزة للضبط والاستقرار، إلى دولة تفوضها للسوق وتفقد تدريجيا قدرتها على إنتاج المعنى والثقة. في هذا الفراغ، يبرز جيل Z كفاعل احتجاجي جديد يعيد طرح سؤال الدولة الاجتماعية من زاوية الحق في الجسد والحق في الحياة.
تطرح هذه التحولات أسئلة سوسيولوجية حقيقية:
- هل النزعة التطبيبية وتوسيع السوق الصحي أدت فعلا إلى تحسين الصحة العمومية؟ أم أنها خلقت أمراضا جديدة، ووسعت الفوارق، وأضعفت أنماط الحماية الجماعية؟
- كيف يمكن إعادة بناء نظام صحي عادل يستند إلى منطق المواطنة لا الزبونية؟
- وما دور الأجيال الجديدة، كجيل Z، في إعادة تشكيل الخطاب العمومي حول الصحة، وتحويله من قضية تقنية إلى مطالب سياسية وحقوقية؟
الجواب على هذه الأسئلة يتطلب تجاوز النظرة التقنية للصحة، والنظر إليها كـحقل صراع اجتماعي، ومجال لإعادة توزيع السلطة والثروة والمعنى. فالصحة ليست مجرد مستشفى وأدوية، بل عقد اجتماعي يقاس به مدى عدالة المجتمع وقدرته على حماية الحياة.
صلاح الدين لعريني: أستاذ باحث في السوسيولوجيا مختبر علم الاجتماع وعلم النفس جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس