الجامعة تقاوم

في ظل كثير من الصمت المجحف، سجّل المغرب واحدة من أبهى ملاحمه المعرفية والأخلاقية في مواجهة آلة الإبادة الصهيونية في فلسطين، دون أن يُقرع لها طبل أو يُنصب لها مهرجان.
قرار الجمعية الدولية لعلم الاجتماع (ISA) بتعليق عضوية الجمعية الإسرائيلية، لم يكن مجرد موقف إداري في هيئة أكاديمية، بل انتصار أخلاقي مدوٍّ صنعه أساتذة مغاربة شباب من قلب الجامعة، بالعلم والموقف، لا بالصراخ ولا بالشعارات.
في البدء، كانت الدعوة إلى مقاطعة المنتدى العالمي الخامس للسوسيولوجيا، المقرر عقده لأول مرة في إفريقيا، وتحديداً بمدينة الرباط، بين 6 و11 يوليوز 2025.
المنتدى الذي رفع شعار “معرفة العدالة في عصر الأنثروبوسين”، بدا وكأنه فقد البوصلة عندما سمح بمشاركة وفد إسرائيلي من مؤسسات أكاديمية متورطة في تبرير القتل والإبادة في غزة.
هنا ارتفعت الأصوات من قلب الجامعة المغربية، ليس بالتنديد فقط، بل بالمقاطعة والاحتجاج المبرمج والمستند إلى حجج أخلاقية ومعرفية وقانونية دامغة.
راحت كرة الثلج تتدحرج. وأكثر من 230 باحثا من المغرب والعالم وقّعوا على عريضة مقاطعة. وخرجت الهيئة المغربية للسوسيولوجيا عن صمتها ببلاغ صريح يرفض حضور أي ممثل للكيان الصهيوني، ويؤكد أن احتضان الرباط لهذا المنتدى مشروط باحترام القيم والمواقف المغربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
ثم انطلقت حملة دولية قوية، قادتها الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل (PACBI) وشقيقتها المغربية (MACBI)مدعومة بأصوات من “أمنستي” ومنظمات حقوقية عالمية، لتفرض على الجمعية الدولية مراجعة موقفها.
أمام هذا الزخم، لم تجد الجمعية الدولية لعلم الاجتماع بداً من الرضوخ. أعلنت في بلاغ رسمي عن أسفها لغياب موقف واضح من الجمعية الإسرائيلية يدين المجازر في غزة، وقررت تعليق عضويتها الجماعية، أي منعها من المشاركة في الهيئات التقريرية والتمثيلية داخل الجمعية الدولية. قرار لم يكن بسيطاً، إذ يضرب في العمق ادعاء “الحياد الأكاديمي” حين يكون هذا الحياد ساتراً لتبرير الجرائم.
هذا الإنجاز المغربي لم يأتِ من فراغ، بل من تراكم طويل للموقف الشعبي والمدني المغربي الراسخ في مناهضة التطبيع، ورفض كل أشكال التواطؤ الأكاديمي مع آلة الاحتلال.
غير أن الرد الإسرائيلي لم يتأخر، بل جاء من بوابة غريبة: الجمعية الدولية نفسها أعلنت فجأة عن إطلاق شبكة جديدة مخصصة للباحثين ذوي الميولات الجنسية المختلفة، واختارت لها اسم QISA، وأعلنت عن تأسيسها يوم 7 يوليوز في الرباط، بلغة غامضة تحتفي بـ”الشمول الأكاديمي”، وتحاول أن تصنع بؤرة توتر ثقافي موازية، تنقل النقاش من الإبادة في غزة إلى الميولات الفردية، ومن حق الشعوب إلى حق الأفراد، في محاولة مكشوفة لبث الفرقة في صفوف المناصرين لقضية عادلة.
لكن القصة لم تنتهِ هنا.
فبينما حاولت الجمعية الدولية الالتفاف على المقاطعة بإبقاء الباب مفتوحا للأكاديميين الإسرائيليين كأفراد لا كمؤسسات، ردّ الباحثون المغاربة بحزم على هذا التمويه، وأكدوا أنهم سيواجهون أي محاولة للتطبيع ولو كانت متستّرة بخيوط الانتماء الفردي.
فتاح الزين، منسق الهيئة المغربية للسوسيولوجيا، كان واضحا حين اعتبر أن هذا القرار يشكّل ضربةً قاسية لإسرائيل، قائلا: “نحن لا نعادي البحث العلمي، بل نواجه من يستعمله لتبرير القتل والإبادة ومحو التاريخ”.
وفي نفس الاتجاه، قدّم الأستاذ عصام الرجواني، من جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، قراءة عميقة للموقف، معتبراً أن تعليق العضوية هو انتصار أخلاقي، لكنه في نفس الوقت يشكّل اختبارا لاستمرارية المعركة، لأن باب المشاركة الفردية يبقى ثغرة يجب سدّها.
وبلغة صريحة، اعتبر الرجواني أن “السوسيولوجيا التي نعرفها لا يمكن أن تبرّر الإبادة ولا أن تهادن نظام الفصل العنصري”، مشددا على أن الجامعة ليست فضاء محايدا، بل ملتزم أخلاقيا بالعدالة والحرية وكرامة الشعوب.
هنا تكتمل ملامح الملحمة. ليس في الرباط فقط، بل في ذاكرة المغاربة الذين علّموا العالم كيف يُمكن للعلم أن يصطفّ إلى جانب العدالة، وكيف يُمكن للموقف الأخلاقي أن يهزم النفاق الأكاديمي.
جمعية دولية تعترف صراحة بأن ما يحدث في غزة هو إبادة جماعية، وتقطع علاقتها مع مؤسسات إسرائيلية كانت تحاول التسلل إلى قاعات المحاضرات لتجميل جريمة حرب.
لكن هذه المعركة تكشف كذلك عن وجه آخر للصراع، وجه لا يُخاض بالرصاص بل بالخطاب، لا بالسلاح بل بالرموز والمفاهيم.
في هذا السياق، تصبح السوسيولوجيا إما أداة للوعي والتحرر، أو أداة للتدليس والتبرير. وها هي بعض المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية تحاول تحويل السوسيولوجيا إلى واجهة براقة لطمس الحقائق، عبر دراسات تُعيد إنتاج رواية المحتل تحت قناع البحث العلمي، ما يضع تحديا أخلاقيا أمام الباحثين في العالم: هل يقفون مع الحقيقة أم مع المؤسسة؟
الأخطر في كل هذا، أن الخطاب الأكاديمي، تماما كالخطاب الصحافي، حين يفقد بوصلته الأخلاقية، يصبح شريكا في الجريمة.
فالجامعة، حين تتواطأ مع نظام الفصل العنصري، تفقد دورها التنويري وتتحول إلى أداة لإعادة إنتاج اللامساواة. ولهذا بالضبط، جاء هذا النصر الرمزي في الرباط ليُعيد المعنى إلى الجامعة، وليثبت أن النضال الأكاديمي ليس ترفا، بل دفاع عن كينونة الإنسان وحقه في الحياة والحرية والكرامة.
الدرس الأكبر في هذه الملحمة، أن معركة الرواية تُخاض في كل ساحة، بما فيها قاعات الجامعة ومؤتمرات الباحثين. وأن الانتصار للحق لا يحتاج إلى دبابة ولا صاروخ، بل يكفيه باحث شجاع، وأكاديمي ملتزم، ومجتمع لا يساوم في كرامته وهويته.
وإذا كان من شيء يجب أن يُسجّل للتاريخ، فهو أن الرباط لم تكن فقط مسرحاً لمنتدى علمي عالمي، بل تحوّلت إلى ساحة مقاومة حضارية، قلبت الطاولة على التطبيع الأكاديمي، وأعادت التذكير بأن فلسطين ليست مجرد بند في مداخلة، بل روح أمة وقضية شعب ومقياس لكل من يدّعي الانتماء للعدالة.
فليعلم من يراهن على اختراق الجامعة المغربية، أن فيها من المناعة ما يكفي لرفض كل أشكال التبرير الأكاديمي للجريمة. ولتُسجَّل هذه الصفحة في كتاب المقاومة: حين انتصرت السوسيولوجيا للمجتمع، وحين انتصر المغرب لفلسطين… من قلب مدرجات الجامعة.