story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الاحتكار الذاتي

ص ص

تجتمع اليوم الأربعاء9 يوليوز 2025، لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب، ليقدّم لها وزير الثقافة والشباب والتواصل مشروع قانونين متعلقين بمجال الصحافة، أهمها المشروع الخاص ب”إعادة” تنظيم المجلس الوطني للصحافة.

وإذا كانت بعض النصوص تُكتب لتُنقذ ما يمكن إنقاذه، وبعضها الآخر يُكتب لتُغلق الملفات، فإن هناك صنف ثالث يُكتب ليُفرغ الفكرة من جوهرها، ويتركها جسدا بلا روح، وهو ما ينطبق على هذا المشرع الذي يؤسس لمجلس بلا سلطة، وتنظيم ذاتي… لكن على مقاس “الضبط الإداري”.

مشروع القانون رقم 26.25 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة ينتمي لهذا الصنف الثالث، حيث يبدو في ظاهره محاولة لإصلاح وضع مختلّ، لكنه في جوهره إعلان انسحاب رسمي من كل الالتزامات التي راكمها المغرب، منذ الرسالة الملكية الموجهة إلى أسرة الصحافة بمناسبة اليوم الوطني للإعلام في سنة 2002، مرورا بدستور 2011 الذي ارتقى بحرية الصحافة إلى مصاف الحقوق الدستورية المؤطرة بشكل صريح، ووصولا إلى ميلاد أول تجربة تنظيم ذاتي سنة 2018.

المشروع المعروض اليوم لا يستدعي النقاش فقط لأنه نص معيب، بل لأنه، بقدر ما يتحدث عن “تنظيم ذاتي”، بقدر ما يجرّده من كل خصائصه، حتى يتحول إلى ما يمكن تسميته “الاحتكار الذاتي”، بما أنه ينظّم مصالح مؤسسات إعلامية بعينها، محسوبة على أصابع اليد الواحدة، وموغل في التحكم، ومصمّم بمنطق تفويض مهمة الرقابة لا التكليف بمهمة التنظيم.

التجارب الدولية المقارنة، وهي نفسها التي استندت إليها وثيقة محترمة أنجزتها اللجنة المؤقتة المكلفة بالإشراف على أعمال المجلس الوطني للصحافة، وقامت بتوزيعها في نسخ معدودة ضمن فعاليات المعرض الدولي للكتاب قبل أسابيع؛ تقول بوضوح إن التنظيم الذاتي ليس نظاما قانونيا جامدا، بل ممارسة تنبع من داخل الجسم المهني، وتستمد شرعيتها من أهلها، وتتمتع باستقلال وظيفي وتنظيمي ومالي عن السلطة التنفيذية. ولا يأتي القانون إلا لتثبيت المكتسبات وتقديم مزيد من الضمانات للاستقلالية والتعددية والحرية في مجال الصحافة.

والواقع أن المشروع المعروض اليوم يمضي عكس التيار: ينشئ المجلس بمرجعية قانونية شديدة التضييق، يتحكم في تركيبتها القانون، ويُخضعها من حيث لا يصرّح لسلطة الحكومة والرأسمال الخاص المتحالف معها، أكثر مما يخضعها لسلطة الجسم المهني أو لسلطة الجمهور.

تنصّ الصيغة المقترحة في مشروع القانون على تركيبة تتكوّن من سبعة ممثلين عن الصحافيين، وسبعة عن الناشرين، وثلاثة أعضاء يمثلون مؤسسات دستورية. ولا يكتفي المشروع بإخراج كل المكونات التي كانت تمنح المجلس سلطته المعنوية، باعتبارها محتضنا لتعبيرات مجتمعية مثل هيئات المحامين واتحاد كتاب المغرب… بل ينص على آليات لإفراز ممثلي الصحافيين والناشرين، تفتقد لأي معنى، بحيث يُطلب من الصحافيين أن يأتوا كأفراد، لا هيئات ولا نقابات ولا جمعيات مهنية لهم، أي أنه يعاملهم كأي “لقطاء” لا أصل ولا فصل لهم، بينما تلعب مثل هذه المجالس دورا أساسيا في ضم أقصى ما يمكن من الهيئات المهنية، لأن هذا هو أصل وبداية تشجيع التنظيم الذاتي، لا التشريع للميوعة وغياب أي أصر للتنظيم.

وفي الوقت الذي تعتبر فيه هذه المجالس هيئات للحكماء، يفتح المشروع الباب أمام كل من قضى 10 سنوات في المهنة للترشح لعضوية المجلس. بينما تقوم بعض التجارب، كما هو الحال في جنوب إفريقيا، على تخصيص مهمة رئاسة هيئة التنظيم الذاتي للصحافة لقضاة.. متقاعدين.

أما تمثيلية الناشرين، فتلك أم العيوب التي ينطوي عليها هذا المشروع، وتفرغه من أي معنى، لأنه وبكل بساطة مفصّل منذ البداية على مقاس هيئة مهنية بعينها، لا مشكلة ولا عيب في وجودها ولا في تمثيلها، لكن العيب كل العيب في جعلها، وهي التي تمثّل أقلّية عددية، مناط تشريع قانوني ينزّل قاعدة دستورية، ويمنحها مقاليد مؤسسة يفترض فيها حماية وتأمين واحدة من أقدس حريات المغاربة، لا لشيء سوى لأن أعضاءها يملكون الكثير من المال والقدرة على حيازة المزيد منه.

إن هذا المشروع يُفضي إلى مصادرة حق الجسم الصحافي في اختيار ممثليه بحرية، ويمنح الأفضلية للفئات الأكثر قربا من السلطة أو الأكثر قدرة على التأثير داخل دوائر الانتداب… “لقد ضغطوا ودافعوا عن مصالحهم” يقول لي مصدر جيّد الاطلاع على كواليس هذا الملف، والذي يحمّل المسؤولية للجسم المهني الضعيف والمشتّت.

إن فكرة احتساب التمثيلية في فئة الناشرين على أساس القدرات المالية فكرة فاسدة ومُفسدة، لأنها تُحوّل المجلس من فضاء للتعددية المهنية إلى ناد مغلق لأصحاب الرساميل الكبرى، وتقصي تلقائيا المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، التي تشكل في الواقع العمود الفقري للمشهد الإعلامي، وتحتضن أغلب الصحافيين المستقلين والطاقات الصاعدة.

والأسوأ أن هذا المعيار يُكرّس منطق الريع داخل الجسم الصحافي، ويحول التمثيلية من استحقاق مهني إلى امتياز استثماري، ومن حق في التأطير إلى سلطة للتحكم في مخرجات المجلس وتوجيه قراراته.

وإلا، فليخبرنا أهل المعرفة في البزنس والاقتصاد، هل يعقل أن يسمح فاعل اقتصادي يتربّع على عرش المؤسسة المنظمة للقطاع، ببروز منافسين أو تركهم يكبرون أو حتى “يتنفّسون”؟

إننا نغادر منطق التنظيم الذاتي إلى منطق “الاحتكار الذاتي”، حيث يصبح المجلس واجهة تديرها قلّة قليلة، بمبرّر واحد معلن هو القدرات المالية الكبيرة، وآخر مضمر هو الموالاة في الرأي والموقف. في حين يُقصى الفاعلون الحقيقيون الذين لا يملكون إلا أصواتهم وأقلامهم ومصداقيتهم.

أي أن المقاولات الصغيرة والمتوسطة، والتي غالبا ما تكون أكثر جرأة واستقلالية لتخفّفها من المصالح، تُقصى باسم معيار مالي، في حين يُكافأ الرأسمال الضخم بالقرب من القرار والاستحواذ عليه.

ثم نأتي إلى مضمون المشروع، وأخطر ما ينطوي عليه، وهو تغليق منطق الزجر، وتكليف المؤسسة بالمهام التي بات المغرب الملتزم دستوريا ودوليا باحترام حرية الرأي والتعبير، عن القيام بها عبر مؤسسات الدولة.

وبدلا من أن يكون المجلس هيئة تحكيم أخلاقي، ومكانا للتفكير المهني المشترك، وآلية لتدبير النزاعات داخل الحقل الإعلامي بطريقة ناعمة، أصبح في هذا المشروع أشبه بمحكمة لها صلاحيات مطلقة، يمكنها أن تحجب صحيفة كاملة لمدة شهر كامل، وتتسبّب في التالي في إعدامها اقتصاديا، في غياب تام للضمانات القضائية المنصوص عليها في قانون الصحافة والنشر نفسه.

إن هذا المشروع يعيدنا إلى منطق الضبط، لا منطق التنظيم الذاتي. وكأن الدولة تقول لنا: سنُبقي على شكل المجلس، لكننا نريده بلا أنياب حين يتعلق الأمر بالدفاع عن حرية الصحافة، وبمخالب حين يتعلق الأمر بضبط سلوك الصحافيين.

قد يقول قائل: أليس من الأفضل وجود نص قانوني على غيابه؟ والجواب أن النص السيئ، حين يحمل طابعا مؤسسيا، يكون أكثر خطرا من الفراغ، لأنه يُضفي شرعية على وضع غير ديمقراطي، ويقنن الهيمنة، ويمنحها شكلا قانونيا.

إننا لا نطالب بكمال النص، بل بالحد الأدنى من التنظيم الذاتي الحقيقي، القائم على انتخاب حر، وتمثيلية عادلة، واستقلال وظيفي، وشفافية في التسيير، ومحاسبة من المجتمع لا من الدولة.

والأهم: تحويل المجلس إلى فضاء للتأطير والتربية الأخلاقية والمرافعة عن حرية الصحافة، لا إلى محكمة مهنية تختزل المهنة في ما يشبه نظام الترخيص.

هذا المشروع، إن قُدّم بصيغته الحالية، فلا مجال لتعديله إلا بإعادة صياغته من جديد، وفق تصوّر يقوم على سؤال جوهري:

هل نريد تنظيما ذاتيا فعلا؟ أم نؤسس “احتكارا ذاتيا”؟