إسرائيل تحترق في انتظار Coupez!

لا يمكن لعاقل استيقظ هذا الصباح، من يوم الخميس 19 يونيو 2025، على صور الدمار الهائل والخراب والأنقاض في تل أبيب، ألا يتأمل الموقف ويقوم بالخلاصة الأساسية: للقوة حدود مهما علت وطغت وتجبّرت.
ها هي دي دولة معزولة ومحاصرة منذ عقود، وممنوعة حتى من استيراد أبسط قطع الغيار الصناعية، وأجواؤها باتت تحت السيطرة الكاملة لخصومها، تدكّ مواقع استراتيجية في قلب عاصمة إسرائيل الحائزة لكلّ أنواع القباب والدعم والاحتضان والمساندة من أكبر وأغنى دول العالم.
في أقل من أسبوع، سقطت تلك الهالة التي ظلت ترافق إسرائيل لعقود، بوصفها الدولة التي تملك أحدث أنظمة الاعتراض، وأكثر الرادارات حساسية، وأقوى الحلفاء نفوذا.
كل ذلك بدا بلا جدوى أمام صواريخ انطلقت من تربة مسيّجة بالعقوبات، ومن دولة ممنوعة من التحليق، ومحاطة بخصوم وألغام وجيوش تنتظر لحظة الانقضاض.
لم تعتمد إيران على طائرات “الشبح”، ولا على نظم دفاع “أرو” و”باتريوت”، بل راهنت على شيء آخر: النفس الطويل، وبناء شبكات غير مركزية، وإدارة الوقت كأنها تدير حربا شطرنجية أكثر من كونها مواجهة تقليدية.
وما يحدث في تل أبيب لم يكن اختراقا أمنيا فقط، بل كسرا لهيبة. والهيبة حين تسقط، تسقط معها معادلات بأكملها. ولعل المفارقة الكبرى أن أول بلد يُضرب بهذا الشكل هو البلد الأكثر صخبا في الحديث عن “الأمن”.
لم يكن المشهد ضربة فيزيائية فقط، بل ضربة رمزية، وفلسفية، واستراتيجية: أن القوة مهما علت وتجبّرت، لا تصمد أمام خصم لا يهاب الخسارة، ولا يعمل وفق منطق “الضربة القاضية”، بل وفق معادلة الاستنزاف البطيء، حيث يكفيه أن يمنعك من إعلان النصر.
وفي خلفية المشهد، لا يمكنك تجاهل طيف دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي الحالي، لكنّه في دور محترف العروض التلفزيونية، كما كان الحال في برنامجه الشهير The Apprentice، يحمل الميل البنيوي ذاته نحو تحويل كل معركة سياسية إلى عرض درامي له نهاية فرجوية يُتوّج فيها بطلا.
لكن المرشد الأعلى، ذلك الشيخ الهرم ذو اللحية البيضاء، يصرّ على حرمانه من تلك القفلة (La chute) التي يبحث عنها صانع الفرجة التلفزيونية دونالد ترامب.
هذا ليس مجازا، بل سلوك حقيقي نراه بالعين المجرّدة، ويمكن رصده في جميع تفاصيله، حيث يبدو المشهد الذي يتشكّل هذه الأيام في المنطقة، وتحديدا بين إيران وإسرائيل، أشبه بفيلم طويل، كلُّ طرف فيه يحاول كتابة النهاية على مقاسه.
وما بين الطائرات المسيّرة والصواريخ المتلاحقة، يلوح ظلّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لا كرجل دولة تقليدي، بل كمخرج تلفزيوني يبحث عن “نهاية” مثيرة تُتوَّج بطلا أمام جمهوره.
منذ صعوده إلى البيت الأبيض، أظهر ترامب ميلا كبيرا نحو تحويل السياسة إلى عرضٍ درامي. وبالنسبة له، لا معنى للسياسة بدون لحظة انتصار مرئية: وعَلَم يُرفع، وزعيمٌ يُصافح، وعدساتٌ تُصوّر، وجمهورٌ يُصفّق.
لعلّ هذا ما يفسر تردّده المتكرر في خوض حروب مفتوحة، خصوصا مع خصم مثل إيران التي لا تُشبه العراق ولا أفغانستان.
فهي لا تمنح خصومها فرصة التقاط صورة نصر، ولا تتيح لحظة سقوط درامي لعاصمة، أو هروب زعيم من شاشة التلفاز. هي خصم شبكي، غير مركزي، يردّ من حيث لا يُنتظر الرد، ويجعل من كل ضربة بداية جديدة.
هنا يكمن المأزق الترامبي: كيف تنتصر على من لا يمنحك مشهدا يُقنع جمهورك بأنك منتصر؟
وما يزيد المشهد تعقيدا أن ترامب لا يُخفي فلسفته في التفاوض: إنها لعبة عضّ أصابع، بشروطٍ استعراضية. تهديدٌ هنا، وانسحابٌ هناك، وإشاراتٌ متضاربة، وتغريداتٌ نارية، ثم صمتٌ مشوب بالتلميح.
حتى حين انسحب من قمة مجموعة السبع فجأة، وألمح إلى وجود “شيء أكبر” في الأفق، لم يكن يُعدّ لضربة عسكرية بقدر ما كان يُحضّر لتصعيد على طريق صفقة أو تفاهم.
لكنّ السيناريو لا يمضي كما أراد. إيران تحوّلت إلى خصم سيّء الخدمة الدرامية، يرفض دور الكومبارس، ولا يمنح خصومه مشهدا ناصعا للحسم.
في المنطق الإيراني كل خطوة محسوبة، وكل ضربة موزونة، بحيث تُربك ولا تُسقط، تُرهق ولا تُنهي.
من هنا يتجدد التردّد في البيت الأبيض: لا لأن ترامب يرفض الحرب من حيث المبدأ، بل لأنه لم يعثر بعد على السيناريو المثالي الذي يُنهي الفيلم على طريقته.
من جهة أخرى، فإن إسرائيل، وقد اعتادت لعب دور الذراع الإقليمية لأمريكا، وجدت نفسها فجأة في قلب الكابوس: صواريخ تدكّ عمق تل أبيب، وتحالفات تتآكل، وشعب يهرب إلى الملاجئ.
إنها أول مرة منذ عقود تُفرض فيها على تل أبيب معركة غير متكافئة، تُدار على إيقاع المفاجآت، لا على تفوّق السلاح.
هكذا وجد الإسرائيليون أنفسهم عالقين في معركة يحكمها سؤال واحد: من ينجح في كتابة النهاية؟ ترامب، الذي يريد ضربة حاسمة على طريقة أفلام هوليوود؟ أم إيران، التي تفضل سرديات الاستنزاف، والتشويق، والمفاجآت؟