أبوعبيدة.. الملثم الذي أذاق الاحتلال مرارة الهزيمة النفسية على مدى عقدين
أماطت كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، اللثام عن واحدة من أكثر الشخصيات تأثيرًا في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، معلنة استشهاد ناطقها العسكري الشهير الملقب بـ”أبو عبيدة”، كاشفةً للمرة الأولى رسميًا عن هويته الحقيقية، وهو القائد حذيفة سمير عبد الله الكحلوت.
على مدار عقدين من الزمن، لم يكن “أبو عبيدة” مجرد ناطق رسمي، بل مديرًا لحربٍ إعلاميةٍ أرهقت تل أبيب، بعدما تحوّل ظهوره إلى ظاهرة إعلامية ونفسية رفعت معنويات الشعب الفلسطيني، ومن ورائهم المتعاطفين مع المقاومة خارج فلسطين، وبثّت الخوف في نفوس خصومها.
بكوفيته الحمراء وعصبته الخضراء، كان صوته “كلمة السر” التي ينتظرها الملايين خلف الشاشات، ليرسم ملامح المعركة عبر بيانات اتسمت بالدقة الميدانية، ما جعله يتفوق في معركة “السردية” على المنظومة الإعلامية للاحتلال الإسرائيلي برمتها.
وُلد حذيفة سمير الكحلوت عام 1984 في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، لعائلة فلسطينية محافظة هُجّرت من ديارها خلال النكبة.
وفي سن مبكرة، التحق بصفوف حركة المقاومة الإسلامية (حماس) مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، ليبرز سريعًا كقيادي ميداني في جناحها العسكري، كتائب الشهيد عز الدين القسام.
وجاء ظهوره الإعلامي الأول في أكتوبر 2004، خلال معركة “أيام الغضب” التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية ردًا على الاجتياح الإسرائيلي لشمال القطاع، ليصبح منذ ذلك التاريخ الواجهة الإعلامية لكتائب القسام.
ولم يثنه ذلك عن متابعة تحصيله العلمي، إذ أتم دراسته العليا في الجامعة الإسلامية بغزة، وحصل على درجة الماجستير في “تفسير القرآن الكريم”، وهو ما انعكس بوضوح على لغته العربية الجزلة واستشهاداته القرآنية المؤثرة في خطاباته.
وبعد انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005، تولّى أبو عبيدة رسميًا منصب الناطق الإعلامي لكتائب القسام، كما ترأس دائرة الإعلام العسكري فيها.
وخلال السنوات اللاحقة، أشرف الكحلوت على تطوير منظومة “الحرب النفسية” والتوثيق الميداني، محولًا إعلام القسام إلى نموذج بارز في محاججة الاحتلال والتأثير في الرأي العام الإسرائيلي، وفي الوجدان الفلسطيني والعربي على حد سواء.
ارتبط اسم “أبو عبيدة” بمحطات مفصلية في تاريخ المقاومة الفلسطينية، من إعلان أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عام 2006، والإعلان عن أسر شاؤول آرون عام 2014، وصولًا إلى معركة “طوفان الأقصى” والحرب المستمرة على غزة منذ أكتوبر 2023.
وقد شكّل ظهوره المتكرر، مع اشتداد العدوان على غزة، عبر كلمات صوتية ومرئية وتغريدات نصية، مصدرًا لنقل صوت المقاتلين وثباتهم، ومواساة حاضنتهم الشعبية، وكشف ما يحاول جيش الاحتلال إخفاءه من خسائر، ما أربك الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وجعل كلماته مادة تحليلية أساسية في غرف القرار بتل أبيب ووسائل الإعلام العبرية.
وعلى الرغم من سلسلة الادعاءات الإسرائيلية المتكررة باغتياله على مدار سنوات، أعلن وزير دفاع الاحتلال نبأ اغتياله في نهاية غشت الماضي، دون أن يصدر حينها أي تعليق رسمي من حركة حماس.
وفي التاسع والعشرين من دجنبر 2025، أكدت كتائب الشهيد عز الدين القسام رسميًا اغتيال المتحدث الملثم، الذي خلفه متحدث جديد كشف في تسجيل مصور أن القائد حذيفة الكحلوت ارتقى شهيدًا في غارة إسرائيلية استهدفت مكان وجوده في غزة، برفقة قائد الأركان محمد السنوار وعدد من قادة المقاومة البارزين.
وأعلن المتحدث الجديد باسم القسام النبأ بكلمات قال فيها: “نزفُّه إلى أمتنا باسمه وكنيته الحقيقيتين؛ القائد حذيفة سمير عبد الله الكحلوت، الذي ترجل بعد عقدين من إغاظة الأعداء وإثلاج صدور المؤمنين”.
رحل “أبو عبيدة” جسدًا، لكنه أرسى نموذجًا إعلاميًا متقدمًا تميّز بدقة البيانات وقوة التأثير النفسي، محولًا إعلام المقاومة الفلسطينية، من خلال كتائب القسام، إلى نموذج إعلامي في قوة الكلمة وفعالية الخطاب، بعد مواجهة طويلة مع الرواية الإسرائيلية، نجح خلالها في ترسيخ حضوره في وجدان الرأي العام الفلسطيني والعربي، والعالمي أيضاً.