الكرة.. لعبة أم مخدّر؟
هل توظّف الدولة المغربية لعبة كرة القدم لإلهاء المغاربة والتغطية على مظاهر تقصيرها واحتلالات تدبيرها؟
اليوم وبعد أن نزلت كأس إفريقيا للأمم، المغرب 2025، من علياء الخيال إلى أرض الواقع، وصارت الملاعب شوارعَ أخرى للبلاد لا مجرّد “ماكيت” على الورق، لم يعد من العدل أن نبقى أسرى النقاش النظري الذي يسبق الأحداث عادة: هل كرة القدم “ترفيه مشروع” أم “أفيونٌ جديد” يُدار به المزاج العام في لحظات الضيق؟
فالعين الآن ترى، والأذن تسمع، والمدن المحتضنة للتظاهرة تُختبَر بطرقها وفنادقها ونقلها وتدبيرها لتدفقات الجماهير وأمنها ووخدماتها اليومية… وهذا بالضبط ما يجعل السؤال قديما بقدر ما هو حاضر، لأن ما يتغيّر ليس السؤال، بل السياق الذي يجرّه من ياقة قميصه إلى واجهة اليوم.
وهو يستضيف هذه النسخة في ست مدن وتِسعة ملاعب، لا المغرب يخوض بطولة فحسب، بل يخوض امتحانَ “الجاهزية” الذي يُراد له أن يكون بروفة كبرى قبل مواعيد عالمية لاحقة. وفي مثل هذه اللحظات، لا تعود الكرة كرة فقط، بل تصبح لغة دولة من خلال صورة وسردية ووعْد بأن المغرب “قادر”.
من الطبيعي أن ينهض صوتٌ يقول: أيُّ بلد هذا الذي يلمع في الملاعب بينما تتعب أطرافٌ أخرى من الجسد الوطني؟ لقد ظهرت هذه المفارقة في النقاش العمومي قبل انطلاق البطولة، خصوصا مع احتجاجات شبابية رفعت شعار المفاضلة القاسية بين المستشفيات والملاعب، وجعلت سؤال الأولويات جزءا من قصة الحدث لا هامشا لها.
هنا بالضبط يعود إلينا ذلك الاستعمال الشائع لعبارة أفيون الشعوب. الأصل في العبارة عند ماركس كان عن الدين، لا عن الكرة، لكنه قالها بما يجعلها قابلة للترحيل إلى مجالات أخرى.
وحين ننقل المجاز إلى كرة القدم، يصبح السؤال: هل تمنحنا الكرة لحظة تنفّس ضرورية في زمن الضغط، أم تُستخدم لإنتاج “راحة” تُؤجِّل الأسئلة بدل أن تعطي الناس طاقة لطرحها، أي نفس ما تفعله المخدرات بعقل من يستهلكها؟
لكن هذا النقل، إن لم يكن دقيقا، يُظلم به الواقع مرتين: مرة حين نُجرّم الفرح لأنه فرح، ومرة حين نبرّئ الفرح من أي إمكانية للاستعمال السياسي.
في تاريخ السياسة هناك مفهوم “الخبز والسيرك”، الذي يصف كيف يمكن للسلطة أن تشتري الرضا العام لا عبر جودة السياسات، بل عبر الإشباع السريع والترفيه.
الخطأ الشائع هو التعامل مع المفهوم كحكم نهائي لا كأداة تحليل. كأن كل مباراة تعني تلقائيا “سيركا”، وكل مدرج يعني تلقائيا “تنويما”. بينما الواقع أكثر تعقيدا. نفس المسرح قد يكون ساحة إلهاء، وقد يكون ساحة “تعارف” بين الناس على وطن مشترك، وقد يكون الاثنين معا في الوقت نفسه.
من زاوية علم الاجتماع السياسي، هناك عدسة أخرى تساعدنا على فك اللغز. “المشهد” أو “الفرجة” بوصفها علاقة اجتماعية تُدار بالصور والتمثيلات. غي دوبور، صاحب كتاب “مجتمع الفرجة”، وهو ينتقد مجتمع الاستهلاك، يقول إن الفرجة ليست كومة صور، بل علاقة بين الناس تتوسطها الصور.
هذا بالذات ما يجعل كرة القدم مادة شديدة الحساسية. فهي تخلق علاقة جماعية حقيقية، لكنها قابلة لأن تتحول إلى علاقة مصنّعة إذا احتكرتها الشاشات والرسميات والدعاية. المدرج يمكن أن يكون مكانا يتعلم فيه الناس معنى الجماعة والانضباط والاختلاف تحت سقف واحد، ويمكن أن يصير أيضا جهازا ضخما لإنتاج “إجماع عاطفي” يُستدعى عند الحاجة، ثم يُعاد إلى مخدعه بعد صافرة النهاية.
مع ذلك، لا يجوز أن نستسهل الطريق ونقول إن كل هذه الجموع التي تهتف وتفرح إنما تُقاد كقطيع. فالمجتمعات لا تعيش بالخبز وحده، ولا بالسياسة وحدها، بل تعيش أيضا بالمعنى، وباللحظات التي تشعر فيها أنها تعيش “معا”. هنا تأتي الأدبيات التي تتحدث عن “الرأسمال الاجتماعي”، وعن الروابط التي تجعل الناس يتعارفون ويتعاونون ويثقون في بعضهم وفي المؤسسات أو يطالبونها بفعالية. ويُطرح بالتالي سؤال: هل تُنتج الرياضة روابطَ تعزز الثقة والعمل الجماعي، أم لا تخلّف سوى لحظات عابرة لا تترك أثرا؟
التجربة الإنسانية تقول إن الأمرين ممكنان. قد تصنع الكرة جسورا بين فئات لا تلتقي عادة، وقد تعمّق أيضا عصبيات صغيرة إذا تُركت بلا تربية مدنية وبلا عدالة في الفرص وبلا خطاب إعلامي مسؤول.
الذين يدافعون عن الكرة كترفيه مشروع لا يخطئون عندما يقولون إنها تُحرّك اقتصادا محليا، وتملأ المدينة حياة، وتمنح الناس لحظة يتصالحون فيها مع أجسادهم ومع انفعالاتهم ومع حكاياتهم المشتركة. والذين يحذرون من إدمان “الأفيون” لا يخطئون أيضا عندما ينبهون إلى قابلية الحدث الرياضي لأن يتحول إلى بديل عن السياسة، أو إلى ذريعة لتلميع الصورة، أو إلى غرفة إنعاش عاطفي يُطلب من الناس أن ينسوا فيها أسئلتهم الثقيلة لبعض الوقت، ثم يعتادوا النسيان.
المعيار الفاصل، في نظري، ليس الكرة نفسها بل “مناعة المجتمع” من تحويل الكرة إلى مخدّر. المناعة تعني أشياء بسيطة لكنها حاسمة: أن تكون هناك صحافة تُذكّر الناس بأن الفرح حق، وأن السؤال حق أيضا، وأن الاثنين يمكن أن يمشيا معا دون ابتزاز. وأن تكون هناك مؤسساتُ مساءلة تجعل كلفة المشاريع شفافة، ومردودها مفهوما، وحصتها من العدالة المجالية واضحة. وأن تكون هناك مدرسة تُعلّم الإنسان معنى الحق والواجب، حتى لا يصبح صوته محصورا في الهتاف الرياضي وحده.
ثم أن يكون هناك فضاء ثقافي وفني وفكري يوازن “المدرج”، حتى لا تتحول البلاد إلى شاشة كبيرة تُدار فيها المشاعر عن بُعد.
حينها فقط تصبح كرة القدم “مساحة حياة” لا “مساحة تنويم”.
لهذا، لا أرى في الكرة أفيونا بالضرورة، كما لا أراها خلاصا بالضرورة. هي أداة اجتماعية ضخمة، قابلة لأن تُستعمل لصناعة لحمة وطنية وذاكرة مشتركة، وقابلة أيضا لأن تُستعمل لصناعة غشاوة جميلة.
ما يصنع الفرق هو المجتمع حين يصرّ على أن يفرح دون أن يتنازل عن حقه في الفهم، وأن يصفق دون أن ينسى أن التصفيق لا يُغني عن الحساب، وأن يحتفل بالهدف ثم يعود، في صباح اليوم التالي، ليطالب بهدف آخر في المستشفى والمدرسة والكرامة.