التطبيع المغربي-الإسرائيلي.. 5 سنوات بين الأرقام والسياسة والشارع
خمس سنوات مضت على توقيع اتفاق التطبيع بين الرباط وتل أبيب سنة 2020، على خلفية اتفاقات أبراهام، التي شهدت تطبيعًا بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، وسط وعود بتعزيز التعاون الاقتصادي والدبلوماسي، وإيجاد فضاءات مشتركة للسلام والتنمية في المنطقة.
بالنسبة للمغرب، اعتُبر التطبيع خطوة رسمية لتوسيع آفاق التعاون الدولي، خاصة في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والأمن. غير أن القرار لم يمر بهدوء، إذ واجه رفضًا شعبيًا واسعًا من قبل المواطنين ومنظمات مدنية وحقوقية وجمعيات، إضافة إلى بعض القوى السياسية، التي رأت في التطبيع تبييضًا لجرائم الاحتلال الإسرائيلي، وتناقضًا مع الإرث التاريخي للمغاربة في دعم حقوق الشعب الفلسطيني.
التطبيع في أرقام
منذ توقيع الاتفاق، شهدت العلاقات المغربية-الإسرائيلية تقدمًا ملموسًا طيلة السنوات الخمس الماضية، إذ تم توقيع أكثر من 40 اتفاقية ومذكرة تفاهم شملت مجالات الأمن والدفاع والاقتصاد والبحث العلمي والسياحة، بحسب بيانات صادرة عن الهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة.
كما سجلت العلاقات الرسمية أكثر من 20 زيارة متبادلة لمسؤولين حكوميين وعسكريين وأمنيين، وأُبرمت صفقات تعاون عسكري وأمني تضمنت الطائرات المسيرة وأنظمة المراقبة والتجهيزات الاستخباراتية.
وفي المجال الاقتصادي، ارتفع حجم التبادل التجاري من مستويات شبه منعدمة قبل التطبيع إلى ما يفوق 300 مليون دولار سنويًا في بعض السنوات، بحسب المصدر ذاته، مع اختلال واضح في الميزان التجاري لصالح إسرائيل.
وفي قراءته لهذه الأرقام، يعتبر الباحث والكاتب في الشأن الفلسطيني هشام توفيق أنها تمثل “مؤشر خطر على مدى الاختراق الصهيوني، الذي يمكن أن يخلّف آثارًا تخريبية على البلد في ميادين عدة، بدل الإسهام في تقدمه وتحقيق استقراره”، مشيرًا إلى أن هذا التصاعد يحمل مجموعة من “الدلالات المقلقة”.
وقال توفيق، في حديث مع صحيفة “صوت المغرب”، إن المغرب أبرم عدة اتفاقيات مع إسرائيل في مجالات زراعية وصحية وتجارية واقتصادية وعسكرية، دون أن يُنجز “ولو دراسة علمية واحدة حول مصير دول أخرى، مثل مصر والأردن، بعد التطبيع”، معتبراً أن ذلك يعني أن المغرب “لم يدرس مآلات التطبيع في التجارب التي سبقته”، لمعرفة ما إذا كانت هذه الدول قد حققت مكاسب اقتصادية فعلية، أم أن التطبيع شكّل مصدر خطر عليها، مذكّرًا بفضيحة الطماطم المسرطنة في مصر سنة 1996 كمثال على ذلك.
ويرى توفيق أن هذه الأرقام “المفجعة” في مسار التطبيع تعيد طرح سؤال جوهري: “لماذا يُعدّ المغرب من أكثر الدول استهدافًا من قبل الصهيونية، سواء على مستوى التطبيع أو الاختراق؟”، ويتابع متسائلًا: “لماذا، تم بعد التطبيع استهداف تلاميذ في مؤسسات تعليمية من خلال نقلهم إلى معبد يهودي وإجبارهم على ارتداء القبعة، في إطار ما سُمّي بـ’التعايش’، دون علم آبائهم، ما أثار رفضًا شعبيًا واسعًا؟”.
ويضيف المتحدث أن “هذه الممارسات لم تتوقف عند هذا الحد، بل تعممت محاولات اختراق مؤسسات تعليمية أخرى وجامعات بشكل سري، ثم امتدت إلى نوادي الثانويات والإعداديات وبعض الجمعيات”.
ويخلص إلى أن التطبيع “لم يكن مجرد اتفاق تجاري أو ثقافي أو سياسي، بل اتخذ أبعادًا أعمق، يمكن توصيفها كاحتلال ثان، أو ما سماه موشي دايان بـ(استراتيجية تمدد الأطراف)”. ويرى توفيق أن إسرائيل تعبّر بوضوح عن مفهومها وغاياتها من التطبيع في أدبياتها الدينية وتصريحات أحزابها الدينية، في وقت ما يزال فيه العرب، حسب تعبيره، “في حالة استنكاف عن فهم ما وراء التطبيع”.
تطبيع دون سفارة
وعلى عكس السنوات الثلاث الأولى التي أعقبت سريان اتفاق التطبيع، والتي شهدت زيارات متكررة لمسؤولين إسرائيليين إلى الرباط تُوِّجت بتوقيع اتفاقيات تعاون في عدد من القطاعات، لم يُسجَّل خلال سنة 2025 أي استقبال لمسؤول إسرائيلي.
وفي المقابل لم يشهد التعاون العسكري بين المغرب وإسرائيل تراجعًا، إذ عرفت السنة ذاتها توقيع عدة صفقات تسليح بين الطرفين، شملت اقتناء أنظمة مدفعية وطائرات مسيّرة من شركات إسرائيلية.
كما كان لافتاً للانتباه، طيلة السنوات الخمس، استمرار تمسك الرباط برفض ترقية مستوى التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل إلى درجة سفارة، مع اختيارها الاكتفاء بالإبقاء على مكتب الاتصال القائم.
وشهدت السنوات الخمس الماضية أيضًا أنشطة ثقافية ورياضية وسياحية مشتركة بين الجانبين، لكنها واجهت رفضًا شعبيًا واسعًا وموجة احتجاجات في عدة مدن مغربية، زادت خلال العامين الأخيرين منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر 2023.
وأشارت الهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة إلى أن مسار التطبيع عرف أيضا “استقبال سفن الدعم الأمريكي للاحتلال الإسرائيلي في الموانئ المغربية، في ذروة حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها قطاع غزة”.
“استفتاء ضد التطبيع”
ولم يهدأ الشارع المغربي، الذي ظل يطالب بإنهاء اتفاقيات التطبيع، من خلال احتجاج شعبي مستمر ومتواصل، شمل تنظيم المسيرات والوقفات وحملات المقاطعة، فضلًا عن مشاركة عدد من المغاربة في مبادرات دولية، من قبيل الانضمام إلى قوافل الإغاثة الطبية داخل قطاع غزة، أو المشاركة في قوافل وأساطيل الحرية لكسر الحصار عن القطاع، الذي تعرض لحرب إبادة جماعية أسفرت عن مقتل مئات الآلاف من الفلسطينيين.
وفي هذا الصدد، اعتبر الكاتب العام للهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة، محمد الرياحي الإدريسي، في حديث مع صحيفة “صوت المغرب”، أن انخراط المغاربة في هذا الحراك الاحتجاجي، على اختلاف أطيافهم وتوجهاتهم، لا يمكن قراءته إلا باعتباره “استفتاءً شعبيًا واضحًا” ضد التطبيع، و”رسالة مباشرة برفض أي شكل من أشكال التواصل أو التنسيق مع إسرائيل”، مؤكدًا أن هذا الرفض يعكس عمق الارتباط التاريخي والوجداني بين الشعبين المغربي والفلسطيني.
وأوضح الرياحي الإدريسي أن ذكرى اتفاق التطبيع تستحضر حجم الرفض الشعبي المغربي لهذا المسار، والذي تجسّد منذ توقيع الاتفاق في مشاركة واسعة للمواطنين في مسيرات ووقفات احتجاجية شملت مختلف المدن والقرى المغربية، ورفضت “المسار التطبيعي” في مجالات متعددة، من بينها مجالات وصفها بـ“الحساسة”، كالأمن والاستخبارات والمجال التربوي التعليمي.
وشدد المتحدث ذاته على أن استمرار الحراك الشعبي الرافض للتطبيع، واتساع رقعته خلال السنتين الأخيرتين، يعكس وعيًا مجتمعيًا متجذرًا بخطورة هذا المسار، داعيًا السلطات إلى “الإنصات لصوت الشارع المغربي” والتراجع عن الاتفاق، مستحضرًا تجارب دول سبقت إلى التطبيع دون أن تحقق مكاسب ملموسة على المستويين الاقتصادي أو السياسي.
وختم بالتأكيد على أن القضية الفلسطينية تظل، بالنسبة للمغاربة، قضية مركزية، وأن التعبئة الشعبية المستمرة ضد التطبيع تعبّر عن استعداد المجتمع المغربي للدفاع عنها، ورفضه لأي مسار يرى فيه مساسًا بهذا الموقف التاريخي.
يُذكر أن اتفاق استئناف العلاقات بين المغرب وإسرائيل تم الإعلان عنه في 10 دجنبر 2020، برعاية أمريكية قبل توقيعه في الرباط بتاريخ 22 من الشهر ذاته، في إطار ما عُرف باتفاقات أبراهام. وشمل الاتفاق إعادة فتح مكاتب الاتصال بين الجانبين، وتطوير التعاون في مجالات متعددة، من بينها الاقتصاد والسياحة والتكنولوجيا والأمن. وجاء الإعلان عن الاتفاق متزامنًا مع اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على الصحراء، وهو ما اعتُبر أحد أبرز عناصر السياق السياسي الذي رافق قرار التطبيع.