أرواح آسفي الخائفة
في جلّ الحكايات المفزعة التي تتسرّب هذه الأيام من أزقة المدينة القديمة لآسفي، تفصيل صغير يوجع أكثر من غيره: كثير من الذين ماتوا غرقا لم تداهمهم المياه في فراشهم، بل وجدهم السيل محبوسين داخل دكاكينهم ومحلاتهم الحرفية، وقد أغلقوا الأبواب على أنفسهم.
لم يكون هؤلاء يجهلون خطر الوادي ولا عنف السيول، لكنهم خافوا أكثر على رزقهم، وعلى بضاعتهم، وعلى رأسمال عمر كامل، فاختاروا البقاء قرب ما يملكون بدل الفرار بأجسادهم.
هذه الصورة تكشف هشاشة الاستقرار الذي نعتقد أننا نعيشه. ففي أولى دقائق الفيضانات، لم يكن الخوف الأكبر في ذهن تجار المدينة من الماء الذي يتصاعد من الأزقة، بل من الأيدي التي قد تمتد إلى محلاتهم في لحظة فوضى.
الخوف من السرقة سبق الخوف من الغرق، وهذا في حد ذاته شهادة على ما يشعر به المواطن من انعدام للأمان الحقيقي: إذا خرج لينجو بحياته، ترك رزقه للنهب، وإذا بقي يحرس رزقه، خاطر بحياته. وحين بدأ الحديث عن حالات سطو وسط الفوضى، بدا أن هذا الخوف لم يكن وهما.
من هنا يجب أن نبدأ التضامن مع ضحايا آسفي: من الاعتراف بأن من ماتوا لم يكونوا “مغامرين” ولا “مستهترين”، بل ضحايا بيئة تُشعِر أبناءها كل يوم أن حياتهم وممتلكاتهم متروكتان لمصيرهما، بلا ضمانة قانونية واضحة ولا حماية فعلية. بيئة تجعل الإنسان بين فخَّين: فخّ الماء، وفخّ الفقر.
لكن ما إن تنحسر السيول وتستقر أرقام الموتى والجرحى، حتى يطفو على السطح نوع آخر من الهشاشة: هشاشة الحقوق. هنا يظهر وجه آخر للإهمال: دولة شرّعت منذ سنوات قانونا يضمن تعويض ضحايا الكوارث الطبيعية، وأقامت صندوقا خاصا لذلك، وفرضت رسوما إجبارية على عقود التأمين لتمويله؛ ثم كلما وقعت كارثة، تركت الضحايا وحدهم يتخبطون بين الصدمة والفقر والجهل بحقوقهم.
الحقيقة البسيطة التي يجب أن تصل اليوم إلى كل بيت في آسفي هي كالتالي: ضحايا الفيضانات، في أرواحهم وأجسادهم ومساكنهم ومحلاتهم، لا يطلبون صدقة من أحد. بل لهم حق قانوني في التعويض، مكفول بمقتضى القانون المتعلق بتغطية عواقب الوقائع الكارثية، الذي دخل حيز التنفيذ سنة 2020.
هذا القانون أنشأ نظاما مزدوجا: من له عقد تأمين، يدفع منذ ذلك التاريخ رسما إجباريا مضمّنا في قسط التأمين، يموَّل به جزء من نظام التعويض عن الكوارث. ومن ليست له أي تغطية تأمينية، خُصص له صندوق تضامن ضد الوقائع الكارثية، يُموَّل أيضا من المال العام ومن نفس الرسم المفروض على المؤمنين.
أي أن تجار آسفي، الذين غمرت المياه محلاتهم، وأصحاب السيارات التي جرفها الوادي، والعائلات التي فقدت مساكنها أو أقاربها، كلهم يدخلون قانونيا في دائرة المستفيدين من هذا النظام، سواء كانوا مؤمَّنين أم لا. هذا هو منطق القانون، وهذا هو وعد الدولة لمواطنيها حين صادقت على النص.
بل إن الحكومة نفسها تعترف اليوم بأن تكلفة هذه الكوارث تتزايد، ولهذا قررت مؤخرا رفع الرسم شبه الضريبي المفروض على عقود التأمين من 1 إلى 1.5 في المئة، بدعوى تمكين صندوق التضامن من موارد إضافية بعد ارتفاع كلفة تغطية مخاطر الزلازل والفيضانات.
المواطن يؤدي أكثر، مضاعفا مساهمته الإلزامية في “تأمين ضد الكوارث”، فهل يحصل بالمقابل على حماية أكبر وحقوق أوضح؟
الجواب، حتى الآن، لا.
في كل مرة تضرب فيها كارثة كبيرة، من زلزال الحوز إلى فيضانات اليوم في آسفي، يتكرر السيناريو نفسه: بلاغات رسمية تتحدث عن “تعبئة شاملة”، و”تدخلات ميدانية”، و”مواكبة المتضررين”، بالدفن والتأبين خصوصا؛ لكن لا كلمة واحدة موجّهة للضحايا تشرح لهم، بوضوح وبالدارجة إن اقتضى الحال، ماذا عليهم أن يفعلوا حتى يحصلوا على التعويض الذي يضمنه لهم القانون.
القانون واضح:
- بعد كل كارثة، يجب على رئيس الحكومة أن يصدر قرارا إداريا يعلن الواقعة “كارثة طبيعية”، ويحدّد نطاقها الزماني والمكاني؛
- بعد نشر هذا القرار في الجريدة الرسمية، يُفتح سجل خاص لتقييد الضحايا، يجب أن يُمسك على مستوى السلطات الترابية خلال أجل أقصاه 90 يوما.
- من له عقد تأمين، ملزم بإبلاغ شركة التأمين في أجل لا يتجاوز 20 يوما من تاريخ الكارثة (قابل للتمديد مرة واحدة)، وإلا ضاع حقه، بينما للشركة أجل 60 يوما للرد، يبدأ احتسابه فقط بعد قرار رئيس الحكومة.
هذا التفصيل القانوني هو اليوم الفاصل بين تاجر في آسفي يمكن أن يحصل على تعويض يساعده على إعادة فتح دكانه، وآخر سيجد نفسه بعد أشهر فقط في خانة “منسيّو الكارثة”، لأنه لم يبلّغ في الأجل، أو لم يسمع أصلا بوجود هذا النظام.
السؤال الذي يجب أن يُطرح على الحكومة اليوم، كما طُرح أمس بعد زلزال الحوز: لماذا يتأخر إعلان “الواقعة الكارثية” إلى آخر لحظة قانونية؟ ولماذا لا تُطلِق الحكومة، عبر أجهزتها الإعلامية الضخمة والفعالة حين يتعلق الأمر بالترويج للبرامج الرسمية، حملة استثنائية تشرح للناس، خطوة بخطوة، ما ينبغي فعله؟
أضعف الإيمان أن تُعامِل الدولة ضحايا آسفي كمواطنين راشدين لهم حقوق. لا يكفي أن تبعث الشاحنات والجرافات لإفراغ الأزقة من الوحل، بل يجب أيضا أن تبعث موظفيها لملء الفجوة بين النص القانوني والحياة اليومية: فرق متنقلة في الأحياء المتضررة، مكاتب استقبال داخل القيادات والمقاطعات، ملصقات واضحة، وأرقام هاتفية للمتابعة، وتسهيل للخبرات الضرورية لإثبات الأضرار.
التضامن الحقيقي مع آسفي لا يمر فقط عبر الإجراءات الإغاثية، رغم أهميتها في الأيام الأولى، بل يبدأ من الاعتراف بأن من غامر بحياته ليحمي بضاعته، فعل ذلك لأن الدولة لم تمنحه يوما إحساسا بأن هناك من سيعوّضه إذا خسر. وأن من فقد دكانه أو مسكنه اليوم، له، على الأقل، حق في تعويض يحترم كرامته، لا في صور تذكارية لمسؤولين وهم يتفقدون “الأضرار” ويمنّون عليه بذلك.
ضحايا فيضانات آسفي لا يحتاجون منا فقط أن نترحّم عليهم ونبكي صورهم، بل أن نحمي الأحياء منهم من فيضان ثانٍ لا يقل خطورة: فيضان البيروقراطية واللامبالاة، الذي يحوّل قانون تغطية الكوارث إلى حبر على ورق.
وأقل ما يمكن أن نطالب به اليوم هو إعلان سريع وواضح لآسفي منطقة منكوبة قانونيا، وفتح مساطر التعويض دون تأخير، وتحمّل الدولة لمسؤوليتها في الوصول إلى الضحايا، بدل انتظار أن يصلوا هم إليها.