بووانو.. عْسيلة البرلمان
رغم كل ما يغمر المشهد السياسي المغربي من عتمة وخيبة وانهيار الثقة، ورغم ما آل إليه البرلمان من انبطاح غير مسبوق أمام الحكومة، يبقى من الظلم أن نرى الصورة بالكامل قاتمة.
داخل هذا الركام، تظلّ هناك نقاط ضوء قليلة، لا لأنها تطهّر الواقع، بل لأنها تذكّرنا بأن العدمية ليست قدرا محتوما. من بين هذه النقاط، يبرز اسم واحد يكاد يكون الوجه الأكثر حضورا في ذاكرة من يتابع أشغال المؤسسة التشريعية في ولايتها الحالية: عبد الله بووانو… عسيلة البرلمان.
التسمية هنا ليست من باب الدعابة، بل استعارة راودتني وأنا أتابع ندوة حزب العدالة والتنمية أمس، وأسترجع الحنين لهواية قديمة هي كتابة بروفايلات السياسيين.
هي استعارة من ذلك المخلوق الصغير الذي اكتسح الخيال الشعبي المغربي مؤخرا: غرير العسل، الذي يواجه الأقوياء والمفترسين بلا وزن ولا نفوذ، لكنه يملك شيئا أثمن من القوة: الجرأة.
رمز جديد وُلد من رحم فيديوهات متداولة، لكنه تحوّل إلى مرآة اجتماعية تقول إن المقاومة الشعبية قد تنبع من أضعف المواقع حين تُسدّ المنافذ الرسمية.
وفي السياسة، يشبه بووانو هذا النموذج: هو ليس الأقوى، لكنه الأكثر جرأة على الاصطدام، والأكثر قدرة على تحويل التفاصيل الصغيرة إلى معارك كبرى.
وُلد عبد الله بووانو سنة 1965 بمدينة القصر الكبير، لأصل عائلي يعود إلى مناطق زاكورة وتنغير، ونشأ في بيت كبير، وسط تسعة إخوة وأخوات، قبل أن تبدأ مسيرته التنظيمية في سن مبكرة عبر جمعية إسلامية كان يديرها الفقيه أحمد الريسوني، والتي استهدفت التلاميذ المتفوقين في المدينة.
من هناك، كانت بوابة الجامعة، حيث نشط داخل الفصيل الإسلامي، قبل أن يتحوّل إلى العمل النقابي داخل الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، مؤسسا في نهاية التسعينيات فيدرالية للصحة داخل هذه المركزية.
كل ذلك بالتوازي مع دراسته للطب التي بدأها في الرباط، واشتغاله لاحقا في مستشفيات كلميم ثم مكناس، حيث أسس حياته المهنية والعائلية، وتزوّج طبيبة زميلة رزق معها بأربعة أبناء.
دخول بووانو الفعلي للانتخابات كان سنة 2002، حين فاز لأول مرة بمقعد برلماني عن مدينة مكناس، ثم حافظ عليه في المحطات لاحقة.
داخل البرلمان، سيتخصص بووانو في لجنة الداخلية، حيث تُطبخ القوانين الانتخابية والنصوص المنظمة للجماعات الترابية، ويكتسب سمعة الرجل الذي يحفظ النصوص ويفكك عُقد الهندسة التشريعية.
ثم سيصبح لاحقا رئيسا للفريق النيابي للعدالة والتنمية، قبل أن يتولى رئاسة لجنة المالية في لحظة مفصلية من عمر التجربة الحكومية لحزبه.
لكن لحظته الأبرز جاءت بعد زلزال 2021، حين سقط الحزب سقوطا مدوّيا، وخرجت أغلب رموزه من البرلمان، ولم ينجُ سوى أربعة فقط عبر الدوائر المحلية، بينهم.. بووانو.
جعلته تلك النتيجة ينتقل من قيادة فريق برلماني قوي إلى رئاسة مجموعة نيابية صغيرة، لكنه لم يختر الانحناء، بل ضاعف من حدة صوته.
صار أشبه ب”عسيلة” الذي يدور حول منطقة الأسود الكبار: قليل العدد، لكنه حاضر دائما في منطقة الاشتباك.
يخرج بووانو، في كل جلسة تقريبا، بملف أو وثيقة أو رقم، يربط بين تضارب المصالح وملفات المال والأعمال وقرارات الحكومة.
في النقاش الأخير حول صفقات الدواء، رمى باسم وزير التربية الوطنية المرتبط شخصيا بشركة تحوز صفقات مع القطاع الصحي، وعاد إليه أمس مستندا إلى محاضر جموع المساهمين وبيانات السجل التجاري، ليطرح سؤالا أوسع عن حدود القانون في منع الوزراء من أي صفة تدبيرية داخل شركات مربحة.
حتى حين لا تخدمه الدقة المحاسباتية كما يريد، يعوّض ذلك بحس سياسي يعرف قيمة التأثير الرمزي. يبالغ أحيانا في تحويل الأرقام إلى لغة “السنتيم” والملايير، لكنه يعرف أن وقعها على المتلقي أقوى من برودة التحليل المالي.
بووانو ليس قديسا سياسيا، وليس خارج المنظومة. ولا يمكن تجاهل الوجه الآخر لطريقته في الاشتغال: صناعة الإرباك بالأرقام والوقائع، المجتزأة أحيانا، وجرّ الجميع إلى مطاردة الحقيقة وسط حقل ألغام من أنصاف الحقائق.
الرجل ليس فقط مصدر صداع للحكومة وأغلبيتها، بل حتى للصحافة والباحثين والمتخصصين في الاقتصاد والقانون العام. وأنا أجمع معلومات هذا المقال صادفت مادة موسّعة للزملاء في “ميديا24” تمارس التحقق المهني (Fact-checking) من تصريحاته.
كل تدخل له يتحوّل إلى ورشة تحقق مرهقة، تُجبر الصحافيين على العودة إلى النصوص والبيانات والمستندات، خوفا من الوقوع في فخاخ الأرقام التي تتدحرج أحيانا بطريقة تصنع تأثيرا إجماليا أكبر من دقته.
نه يلعب على المنطقة الرمادية ببراعة لاعب مراوغة: لا يكذب بالضرورة، لكنه يختار زاوية الحقيقة التي تحدث أكبر أثر سياسي.
شارك بووانو في لحظات مفصلية من تجربة الإسلاميين في الحكم، وارتبط اسمه بملفات مثيرة للجدل، بينها إصلاح التقاعد والمادة التاسعة التي منعت حجز ممتلكات الدولة… وهو يدرك اليوم أن خصومه يستثمرون هذا الإرث ضده كلما صعّد نبرة المواجهة.
لكنه مع ذلك يحتفظ بصورة الرجل الذي لا يكلّ في مطاردة الحكومة، تماما كما يفعل عسيلة في الغابة، ولا يتركها ترتاح في منطقة الصمت.
خارج البرلمان، سبق أن جلس داخل حاوية فنية في الشارع مع لطيفة أحرار، معلنا رفضه لمفهوم “الفن النظيف”، مؤكدا أن الفن إمّا أن يكون جميلا ومفيدا أو لا يكون.
وفي القضايا الخارجية، يعارض التطبيع مع إسرائيل دون أن يخلط بين اليهود المغاربة ومشروع الاحتلال، مستحضرا تجاربه الإنسانية الشخصية في مكناس.
في الخلاصة، عبد الله بووانو ليس بطلا أسطوريا ولا معارضا مهرّجا. إنه تجسيد لكائن سياسي عنيد، وبراغماتي، ويتغذى على التناقضات ويستثمر المساحات الضيقة بين القانون والسياسة، وبين الحسابات التقنية والمنازلات الرمزية.
هو مرآة صغيرة لما يمكن أن تكونه المعارضة حين تفقد أدوات القوة لكنها ترفض الاستسلام، وما يمكن أن تكونه السياسة في بلد يحتاج لمن يذكّره بأن الصمت أخطر من الخطأ.
هل هو عسيلة الذي يقفز في وجه الأسود فعلا؟
أم مجرّد صوت مرتفع داخل لعبة أكبر منه؟
يبقى السؤال مشروعا، والجواب ليس آنيا. لكن المؤكد أن المغرب يحتاج، أكثر من أي وقت مضى، إلى أصوات تزعج الطمأنينة الزائفة، وتذكّر بأن السياسة لا تكون إلا صراعا من أجل المصلحة العامة.