بعد فضيحة “الأخلاقيات”.. مطالب بسحب قانون مجلس الصحافة وإعادة تأسيس التنظيم الذاتي
أعادت واقعة مقاطع الفيديو المنسوبة لأعضاء لجنة الأخلاقيات التابعة لللجنة المؤقتة لتسيير شؤون الصحافة، النقاش حول مستقبل التنظيم الذاتي لمهنة الصحافة في المغرب، في لحظة تُظهر حجم الهشاشة التي تطبع هذه التجربة الوليدة.
وأظهرت هذه الواقعة حالة التخبط القانوني والمؤسساتي الذي يشتغل في إطاره المجلس، كما وضعت مشروع القانون الجديد المعروض حالياً على الغرفة الثانية بالبرلمان تحت مجهر النقاش العمومي.
وفي هذا الصدد، يرى الصحافي مصطفى ابن الرضي أن مشروع القانون السالف الذكر يعكس “فشلاً حكومياً ذريعاً”، مشيراً إلى أن “فئة مُتغلّبة داخل الجسم الصحافي اعتقدت أنها قادرة على تمريره عنوة ودون توافق”. ويعتبر أن الحل الوحيد هو “سحب المشروع من مسار التشريع لإعادة بنائه بنقاش واسع وتشاركي”.
من جهته، يؤكد الباحث والإعلامي حسن اليوسفي المغاري أن ما جرى يعزز فكرة أن “الأزمة ليست تقنية في مواد القانون، بل في فلسفته”، محذراً من تحول أجهزة المجلس إلى “مساحات للكواليس والتحالفات بدل هيئة مستقلة للأخلاقيات”.
كما يشدد على أن أي إصلاح جديد “يجب أن يعيد تعريف الاستقلالية المهنية، ويفصل تماماً بين المهني والحزبي والنقابي، ويضمن آليات شفافة للمساءلة”.
ضرورة سحب المشروع
وأكد الصحافي مصطفى ابن الرضي أنه لا يرى بديلا للتوجّه نحو مخرج لأزمة مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة “غير سحبه من مسار التشريع من أجل المزيدٍ من التشاور وتأمين حزام دعم له، مؤسّسٍ على التوافق بين أصحاب العلاقة”، مشيراً في هذا السياق إلى أن “حجم الرفض لمشروع القانون واسع، سواء من طرف الصحافيين، أو من طرف المؤسسات الدستورية التي قدمت رأيها الاستشاري، أو من طرف الخبراء، وكذلك من طرف وزراء إعلام سابقين”.
وأوضح ابن الرضي أن مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة “يحتاج نقاشاً واسعاً، وتشاركياً، بما يحقق المدخل الصحيح والأساسي لإصلاح حقيقي، ويقطع مع هندسة المنافع، وصياغة القانون وفق عقلية مسكونة بهواجس التضييق بدل الانفتاح، ومصادرة التراكمات بدل تدعيم الحريات”،
واعتبر أن “مشروع القانون رقم 026.25 عنوانُ فشل حكومي ذريع، بعدما اعتقدت “فئة مُتغلّبة” في جسم الصحافة أنها قادرة على تمريره عُنْوةً، ودون توافقات، بل ودون حاجة للنقاش، أو الأخذ بعين الاعتبار هواجس الصحافيين وباقي التمثيليات ذات الصلة”.
وانتقد المتحدث ذاته من أسماهم “مهندسي هذه المرحلة التعيسة في تاريخ الصحافة” بسبب “إمعانهم في الشطط في استعمال مواردهم وعلاقاتهم وشبكات مصالحهم، متوهمين أن إصلاح قطاع كالصحافة يمكن أن يمرّ بالغَلَبَة والإقصاء وفرض الرأي، دون آثار على المهنة والمنتسبين لها”.
وأضاف قائلا: “أما أن يكون في صدارة هذا المسار كثيرون ممّن أساؤوا لأخلاقيات مهنة الصحافة، ودمّروا عناصر قوّتها، وحوّلوها إلى ساحة حرب مفتوحة، وسخّروها لحساب مراكز نفوذ، فهذا ممّا يوجب التيقّظ والاحتراز ممّا أنتجوه، وقف مسار تشريعه”.
وتابع أنه “في كثير من المرات يكون الأخطر من نصوص مشاريع القوانين في حرفيتها هي الروح التي كتبت بها. ومن كتبوا وشاركوا في صياغة مشروع قانون تنظيم المجلس الوطني للصحافة معروفون بحمل لواء الانغلاق والمحافظة، بل ومعروفون بعدائهم لحرية الصحافة”، وفوق ذلك أثبتوا أنهم لا يفكرون في الصحافة إلا من مداخل أرقام المعاملات والأرباح، والهيمنة على المؤسسات التمثيلية، وكذلك انشغالهم العميق بالجوانب الجزرية والعقابية في مواجهة الصحافيين، بحسب تعبيره.
وأشار ابن الرضي إلى أن فضيحة مجلس الأخلاقيات التابع للمجلس الوطني للصحافة المفتقد للشرعية، والتي فجّرها الصحافي حميد المهداوي، “دليل صارخٌ على حجم التردي، وعنوانٌ فاضحٌ لعقلية هي نفسها التي شاركت في صياغة مشروع القانون رقم 26.25، وظهر آخر همّها هو حماية الصحافة والصحافيين، بل مشغولة بـما وصفه بـ “التشيطين” و”غيّزي ليه” و”رْزِيه”.
الثقة أساس الإصلاح
وفي نفس الصدد، يذهب الباحث والإعلامي حسن اليوسفي المغاري إلى أن ما حدث “لا يسمح بالاستمرار في اختزال إصلاح الإطار القانوني المنظّم للمجلس في مجرد تعديلات تقنية”، لافتا إلى أن حجم الاختلالات التي كشف عنها التسريب، وتراكم السوابق التي سبقته، يبيّنان ـــ حسب قوله ـــ أن “المسألة أعمق من نصوص تحتاج إلى ترميم، وأن جوهر الإشكال يتعلق بطبيعة التنظيم الذاتي ذاته كما طُبّق في المغرب، ومدى استقلاليته الفعلية عن الفاعلين السياسيين والإداريين، وعن شبكات النفوذ داخل القطاع الإعلامي”.
ويؤكد اليوسفي أن مفهوم التنظيم الذاتي، كما استقر في التجارب الديمقراطية، “صُمّم ليكون آلية مهنية خالصة، تستمد شرعيتها من الجسم الصحافي نفسه، وتشتغل وفق مبادئ الشفافية والمساءلة والأخلاقيات، دون أية وصاية خارج المهنة”.
غير أن التجربة المغربية ـــ رغم أهميتها عند انطلاقتها ـــ “لم تنجح في ترسيخ هذا المنطق”، إذ بقيت بنيتها التنظيمية عرضة لـ“تجاذبات انتخابية ضيقة، وحدود ملتبسة بين المهني والنقابي، وبين التأطير الأخلاقي وتدبير التوازنات”. وتبرهن التسريبات الأخيرة، حسب رأيه، أن “آليات اتخاذ القرار داخل المجلس تحتاج إلى مراجعة معمّقة تعيد الاعتبار لفكرة الهيئة الأخلاقية المستقلة، لا هيئة تشتغل بمنطق الكواليس والتحالفات”.
ويرى المتحدث أن النقاش العمومي حول إصلاح المجلس الوطني للصحافة “لا ينبغي أن يتوقف عند مواد تتعلق بالانتخاب أو بالتصويت أو بمدة الانتداب، بل يجب أن يمتدّ ليطرح أسئلة جوهرية: ما طبيعة الاستقلالية المطلوبة؟ وهل يظل تنظيم الصحافة شأناً مهنياً خالصاً أم مجالاً تتحكم فيه مراكز خارج المهنة؟ وكيف نضمن ألا تتحول أجهزة التنظيم الذاتي إلى فضاءات لتوازنات سياسية أو نقابية تُفرغ فكرة الأخلاقيات من محتواها؟”.
وشدد على أن أي إصلاح حقيقي “لا يمكن أن يتم دون إعادة بناء فلسفة القانون نفسه، واعتماد مقاربة ترتكز على المهنية والشفافية والتمثيلية الحقيقية لا الشكلية”.
ويضيف أن نجاح أي منظومة تنظيم ذاتي يقتضي “إعادة الاعتبار للثقة باعتبارها أساس الذراع الأخلاقية لمهنة الصحافة”، مشيراً إلى أن الثقة لا تُبنى بنصوص جامدة، بل عبر “آليات واضحة للمساءلة، وضمانات ضد تضارب المصالح، وفصل حقيقي بين الهيئات التنظيمية وبين الأجهزة النقابية أو الحكومية”.
ويرى الباحث أن هذه الشروط وحدها “يمكن أن تعيد للتنظيم الذاتي مكانته الطبيعية كآلية لحماية حرية الصحافة وحقوق الجمهور، لا لتدبير الصراعات الداخلية أو تكريس نفوذ فئات محددة”.
ويؤكد حسن اليوسفي أن التجارب الديمقراطية المتقدمة تُجمع على أن التنظيم الذاتي الفعّال يقوم على “استقلالية تامة عن الحكومة والأحزاب والنقابات، وتمثيلية مهنية حقيقية تُفرزها انتخابات شفافة خالية من تضارب المصالح، وآليات واضحة للمساءلة وعلنية القرارات وتعليلها”.
كما يستلزم “فصلاً صارماً بين الوظائف الأخلاقية والمهام النقابية، وشفافية كاملة في التسيير ونشر التقارير، وإشراك الجمهور باعتباره طرفاً أصيلاً في حماية حقه في المعلومة عبر آليات فعّالة لتلقي الشكايات ومعالجتها”.
ويخلص اليوسفي إلى أن هذا البناء لا يكتمل إلا بـ“مدوّنة أخلاقية صريحة تستند إلى المعايير الدولية، بما يحمي حرية الصحافة ويصون حقوق المجتمع ويعيد الثقة في جدوى التنظيم الذاتي”، مبرزا أن “هذه المبادئ تشكل الأساس لأي نظام ديمقراطي فعّال للتنظيم الذاتي، وينبغي أن تكون المرجع الذي يستحضرَه النقاش المغربي في لحظته الراهنة”.