story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

إِشْ إِشْ، … اممممم هالتشيطين!!

ص ص

الإمتيازات الموروثة وتحديات الإبتكار المؤسساتي والسياسي

لم تكن عبارة ”اممممم… هالتشيطين!!” التي تَفوَّه بها عضو في لجنة يُفترض فيها المهنية والرصانة مجرد زلة لسان عابرة، بل كانت جرحا يكشف ما يختبئ تحت جلد بعض مؤسساتنا. لحظة قصيرة جدا، لكنها تختزل عقودا من تَرسُّخ عقلية الإستعلاء، وتطبيع اللامسؤولية، وإقحام الإنفعال والإصطفاف داخل فضاءات يُفترض أن تكون حامية للأخلاق ومُحصَّنة ضد الميول الشخصية. وما رَدَّة الرأي العام سوى علامة على حجم الصدمة من خطاب يصدر عن مؤسسة لا ينبغي لها أن تسقط في وحل التحقير أو التشيطين، مهما اختلفنا حول موضوع القرار أو شخصية المعني.

إن خطورة هذه الواقعة لا تكمن في العبارة نفسها، بل في ما تُعبِّر عنه: عقلية ترى في السلطة امتيازا لا مسؤولية، وفي المواطن موضوعا للتصنيف لا شريكا في العملية الديمقراطية، وفي الرأي المخالف مصدر إزعاج لا مناسبة للتفكير. إنها الذهنية ذاتها التي تُنتج الإمتيازات الموروثة، وتُحَوِّل المؤسسات إلى فضاءات مغلقة، وتسمح بمرور سلوكيات توحي بأن بعض المسؤولين ”فوق النقد وفوق المحاسبة”، بينما الواقع أن المغرب يقطع منذ سنوات مع مثل هذا السلوك، ويتجه نحو نموذج مؤسساتي أكثر شفافية وانفتاحا.

وعندما نستحضر عبارات مماثلة تستعمل في الفضاء العمومي من قبل بعض المنتخبين مثل السَّبّْ، والتحقير، واللغة السوقية، والإستعلاء، ندرك أننا أمام أزمة أعمق من مجرد ”خطأ لغوي”. إنها أزمة بنيوية تتعلق بغياب الإبتكار المؤسساتي داخل عدد من الهيئات، وضعف التأطير السياسي، وانعدام ثقافة الدولة لدى بعض من يتحملون المسؤولية. فحين يتعامل منتخب أو عضو لجنة رسمية مع مِلفَّات حساسة بالمنطق نفسه الذي يتعامل به مع دردشة في مقهى، فإننا في واقع الأمر أمام خلل في تَمَثُّل المسؤولية، وفي فهم الوظيفة العمومية كوظيفة أخلاقية قبل أن تكون وضعا اجتماعيا.

إننا اليوم أمام تحديات ثلاثة كبرى:

التحدي الأول هو تحدي الإبتكار المؤسساتي، الذي يفرض علينا إعادة هندسة فضاءات القرار، وضبط معايير السلوك داخل المؤسسات، وتحصينها من الإنفعالات الشخصية. فالمؤسسات لا تقوم على الأشخاص، بل على قواعد ثابتة؛ ومن دون تحديث آليات الحكامة، وتطوير ثقافة التحفظ والمسؤولية، ستظل بعض المؤسسات عرضة لتصرفات تسيء إليها من داخلها.

التحدي الثاني هو تحدي الإبتكار السياسي، الذي يحتاج إلى نخبة جديدة قادرة على تحويل الرأي العام إلى شريك، لا إلى خصم. نخبة تستوعب أن التواصل ليس استعلاء، وأن النقد ليس تهديدا، وأن الإختلاف ليس مؤامرة.

إن المغرب يتقدم اليوم نحو نموذج سياسي يربط الشرعية بالثقة، والثقة بالإحترام، والإحترام بالأداء. وأي مسؤول لا يستطيع أن يرفع الخطاب السياسي إلى مستوى الدولة لا يمكن أن يحافظ على ثقة المواطن في المؤسسات.

أما التحدي الثالث فهو الإبتكار البنيوي، الذي يُمثِّل جوهر اللحظة الراهنة. فالمغرب يعيش تحولات اقتصادية، اجتماعية، أمنية ورقابية تجعل من الضروري تحديث العلاقة بين المواطن والمؤسسة. لكن هذه العلاقة لن تُبْنَى في ظل العقلية التي ظهرت في عبارة ”هالتشيطين” وفي ردود أفعال مشابهة صادرة عن مسؤولين منتخبين يتعاملون مع السلطة بمنطق الغنيمة، لا بمنطق الأمانة.

لقد كشفت الواقعة أن بعض العقليات ما تزال أسيرة الإمتيازات القديمة والممارسات التقليدية، وأن التخلص من هذه البنية الذهنية يحتاج إلى شجاعة مؤسساتية وإرادة سياسية صادقة. المغرب اليوم يحقق قفزات نوعية في محاربة الفساد، وإطلاق الأوراش الكبرى، وتحسين حكامة الدولة، لكن هذا المسار يهدده دائما وجود مسؤولين لا ينسجم خطابهم مع روح المرحلة ولا مع منطق التحول الوطني.

إن مستقبل المغرب لن يُبنى على ”إش إِشْ” ولا على ”هالتشيطين”، ولن يُبْنَى على الإمتيازات الموروثة والكذب ولا على الحروب الوهمية ولا على التحقير، بل سيُبنى على رصيد من الثقة والإحترام والجدية.

والمؤسسات القوية لا تحتاج إلى لغة منحطة ولا إلى عقلية المؤامرة، بل تحتاج إلى مسؤولين يضعون الدولة فوق نزواتهم، ويحترمون المواطن قبل أن يطلبوا منه الثقة.

إن اللحظة الراهنة دعوة مفتوحة لمراجعة السلوك المؤسساتي، وتجديد أخلاق المسؤولية العمومية، والقطع مع كل تعبير يسيء إلى صورة الدولة أو كرامة المواطن.

ذلك أن المغرب، وهو يتحرك بثبات نحو نموذج جديد للتنمية والحكامة، لا يمكنه أن يسمح لإنزلاقات كلامية أو ذهنية أن تعيدنا إلى الوراء. نحن أمام زمن الثقة، وزمن الإبتكار، وزمن الدولة التي تحمي كرامة المواطن في التفاصيل قبل الكليات.

لذلك، فإن الواقعة ليست مجرد حادثة عابرة، بل هي فرصة حقيقية للتفكير: هل نريد أن نبقى أسرى العقليات القديمة؟ أم نريد مغربا مؤسساتيا حديثا، يحترم نفسه ويحترمه العالم؟

الجواب واضح: مغرب الغد لا مكان فيه لعبارات من قبيل ”هالتشيطين” ولا لمنطق الإمتيازات الموروثة والتعالي و غْيّْزْ ليه ودبا تسمع خبارو…؛

مكانه فقط لمن يعيد للدولة هيبتها، وللمؤسسات احترامها، وللمواطن كرامته.

الدكتور جمال العزيز