story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الحكم الذاتي.. الخلاص؟

ص ص

يشكل قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2797 حدثا تأسيسيا في مسار بناء المغرب الحديث إلى جانب حدث الاستقلال سنة 1956 وحدث المسيرة الخضراء سنة 1975. كما يعد إيذانا بتحول استراتيجي في النهج الأممي لتدبير النزاع، كونه يعزز من الشرعية الأممية للحل السياسي التفاوضي.

في هذا السياق، يؤكد القرار، ولأول مرة، أن مقترح الحكم الذاتي هو “الأساس” الوحيد للتفاوض، بهدف التوصل إلى حل سياسي، واقعي، نهائي ومقبول للطرفين، تحت السيادة المغربية، ويضمن تقرير المصير للساكنة في الصحراء الغربية.

ورغم أن القرار لا يحظر خيار الانفصال بشكل صريح، وبالتالي لا يمكن الادعاء بأنه يعارض مبدأ تقرير المصير بوصفه قاعدة آمرة في القانون الدولي، مغلقا الباب أمام إمكانية اللجوء إلى محكمة العدل الدولية بحجة وجود تناقض بين فقرات القرار والقانون الدولي؛ إلا أن القرار الجديد يوفر صراحة ولأول مرة إطارا واضحا للتفاوض على أساس توافقي، وهو ما يعزز النهج الأممي المتبع منذ 2004، والذي بات يشجع على الحلول التوافقية والعملية.

وإذ يشير القرار إلى الحل “تحت السيادة المغربية”، يكون قد حدّد الأفق الممكن للحل النهائي العملي والمستدام كذلك، أي في إطار السيادة المغربية.

كيف ذلك؟

أولا: القرار 2797 بوصفه إطارا للتفاوض

في 31 أكتوبر 2025، صوّت مجلس الأمن بأغلبية الأصوات لصالح القرار 2797 الذي يمدد ولاية بعثة الأمم المتحدة القائمة منذ فترة طويلة في الصحراء. ولكنه أشار هذه المرة إلى مقترح الحكم الذاتي المغربي لعام 2007، كأساس وحيد للمفاوضات من أجل التوصل إلى حل سياسي عادل ودائم في إطار السياسية المغربية، يضمن تقرير مصير “شعب الصحراء الغربية”.
ولعل أقوى بنود القرار في الفقرات التالية:

الفقرة الأولى التي تؤكد على الدعم الكامل للأمين العام ومبعوثه الشخصي في تسهيل وقيادة المفاوضات، استنادا إلى مقترح الحكم الذاتي المغربي، بهدف التوصل إلى حل عادل ودائم ومقبول لطرفي النزاع، بما يتماشى مع ميثاق الأمم المتحدة، ويرحب بأي اقتراحات بناءة من الطرفين استجابةً لمقترح الحكم الذاتي؛

الفقرة الثانية التي تدعو “الطرفين إلى المشاركة في هذه المناقشات دون شروط مسبقة، على أساس مقترح الحكم الذاتي المغربي، بهدف التوصل إلى حل سياسي نهائي ومقبول للطرفين، يكفل تقرير مصير “شعب الصحراء الغربية”، ويقرّ بأن الحكم الذاتي الحقيقي يمكن أن يمثل النتيجة الأكثر جدوى، ويشجع الطرفين على تقديم أفكار لدعم حل نهائي مقبول للطرفين”.

تبدو كلمات هذه الفقرات، وباقي فقرات القرار في علاقتها بالديباجة، وكأنها تحاول التوفيق بين مبادئ وحلول متناقضة في رأي أنصار الطرح الانفصالي. لكن قراءة مضامين القرار في السياق التاريخي والسياسي للنزاع، وفي سياق تطور موازين القوى العالمية، وفي سياق تطور النهج الأممي لحل النزاعات على أساس الحلول السياسية والعملية منذ 2004 على الأقل؛ يكشف عن اتساق غير مخل بقواعد القانون الدولي في مضامين القرار، اخذا بعين الاعتبار أمرين اثنين: الأول، حجم التناقضات في المواقف والمصالح بين أعضاء مجلس الأمن الخمسة عشر، ودول تدعم السيادة المغربية مثل أمريكا وفرنسا، وأخرى تدعم الحكم الذاتي فقط مثل بريطانيا وسيراليون، وأخرى تدعم السيادة الاقتصادية للمغرب فقط، مثل روسيا، أو دول تقف إلى جانب الموقف المغربي في الحل، لكنها لا يمكن أن تعلن ذلك صراحة بسبب نزاعات مشابهة تعد طرفا فيها مثل باكستان.

الاعتبار الثاني أن مجلس الأمن الدولي يمكنه أن يؤسس ولو تدريجيا لإطار جديد للتفاوض، تغليبا منه لاعتبارات حفظ الأمن والسلم الدوليين. وهي ممارسات قد تبدو للطرف المتضرر منها متناقضة مع القواعد الآمرة في القانون الدولي.

في هذا الإطار، يروج أنصار الطرح الانفصالي لقراءة تفهم الفقرات أعلاه وكأنها محاولة غير ناجحة للتوفيق بين مواقف متناقضة، وكتناقض السياسي والقانوني في تدبير هذا الملف.

غير أن الوقائع قد لا تبدو كذلك ؤذا أنصتنا إلى الخطابات المختلفة، وخصوصا القانونية منها، إذ أوضح التعليق الذي تقدم به المبعوث الأممي، ستيفان ديميستورا، يوم 5 نونبر الجاري، أن القرار مهم وثمرة التزام نشط من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، مؤكدا أنه “في فقراته المصاغة بعناية، يُنشئ، ونؤكد على هذا المصطلح، إطارا للمفاوضات، ولا يفرض نتيجة محددة سلفًا، لأنه، كما هو الحال دائما، لا يمكن أن ينشأ حل دائم إلا من مفاوضات تُجرى بحسن نية. يجب التذكير بأن المشاركة في المفاوضات لا تعني بالضرورة قبول نتيجتها مسبقًا: الجوهري هو الانخراط الكامل فيها”.

ومن أجل مزيد من الوضوح تساءل المبعوث الأممي: “أين نحن اليوم؟ نحن ننتظر بفارغ الصبر أن يقدم المغرب محتوى خطة حكم ذاتي موسعة ومحدثة، كما طلبت في كلمتي أمام مجلس الأمن في 16 أكتوبر 2024، وكما أعلن جلالة الملك محمد السادس في خطابه الأخير”. وأضاف دي مسيتورا: “سنأخذ، بالطبع، كما يحدد القرار 2797، خطة الحكم الذاتي المغربية لعام 2007 كأساس لهذه المفاوضات، ونأمل في دمج النسخة الموسعة من الخطة المغربية قريبا جدا، بالإضافة إلى وثيقة جبهة البوليساريو وأفكار أخرى ذات صلة مذكورة في القرار، الذي يظل مفتوحًا لأي اقتراح بناء”. علما أن منطوق القرار يفتح الباب أمام “جميع الاقتراحات البناء” لكن على “أساس مقترح الحكم الذاتي المغربي”.

تصريحات المبعوث الأممي تعيد الأمور إلى نصابها، بعد تأويلات مجحفة لمنطوق القرار من قبل البوليساريو والجزائر، حيث إن القرار الأممي يضع إطارا للحل السياسي، عملي ومستدام وتوافقي، لكن بالارتكاز على ثلاث محددات: مقترح الحكم الذاتي المغربي “أساسا” للتفاوض؛ وتحت السيادة المغربية؛ وبما يضمن تقرير مصير شعب الصحراء الغربية.

ثلاثة محددات تفترض وجود اتساق فيما بينها، كما الخلو من أي تعارض مع القانون الدولي، وهو الفهم الذي لن يكون ممكنا إلا إذا اعتبرنا أن الحل المتوقع للنزاع سيكون في إطار السيادة المغربية، لكن ليس بالضرورة وفق الطرح المغربي للحكم الذاتي، الذي يظل مجرد مقترح للتفاوض قد ينتهي إلى شكل آخر قد موسعا أكثر مما نتوقع.

فالمفاوضات هي التي ستحدد في النهاية شكل هذا الحكم الذاتي، والذي يفترض أن يكون ضمن السيادة المغربية، ولا ينشيء سيادة ثانية موازية.

ثانيا: القرار الأممي بوصفه إطارا محددا للحل

أخذا بعين الاعتبار منطوق قرار مجلس الأمن رقم 2797، وخصوصا الإشارة الصريحة بأن أي حل يجب أن يكون “تحت السيادة المغربية”، ورغم أن هذه الإشارة وردت في ديباجة القرار وليس في صلب بنوده، إلا أن جوهر القرار ككل يؤكد أننا إزاء “قرار محدد” للحل السياسي حتى في شكله النهائي. كيف ذلك؟

ينبغي أن نلاحظ أن القرار صوتت لصالحه 11 دولة، ولم تعترض عليه أية دولة بما فيها الجزائر. ومن ضمن الدول المؤيدة، من لا تعترف بالسيادة المغربية على الصحراء حتى الآن، وإن كانت تدعم الحكم الذاتي، مثل بريطانيا وسلوفينيا وكوريا الجنوبية والدنمارك واليونان.

كما أن الدول التي امتنعت، قد تكون فعلت ذلك رغبة في تسريع مسار الحل السياسي، علما أن اعتراض الصين وروسيا يمكن أن يسقط هذا القرار من أساسه، لكنهما فضلا فتح الباب أمام التحول الجديد في تدبير النزاع، وهو موقف قد يفسر لصالح القرار في النهاية.

وعليه يمكننا القول، بكثير من الحذر طبعا، إننا إزاء أول حالة يسمح فيها مجلس الأمن بكل أعضائه لقرار يعزز من الاتجاه العام الواقعي والسياسي للوصول إلى تسوية للوضع تحت السيادة المغربية. وتسمح هذه الملاحظة بالقول إن هذا التطور “يحمل آثارا كبيرة على مستقبل وضع الإقليم، وعلى القانون الدولي”.

من زاوية قانونية، لا يزال ملف النزاع حول الصحراء مدرجا ضمن الأقاليم السبعة عشر غير المتمتعة بالحكم الذاتي التابعة للأمم المتحدة، والتي يخول لها القانون الدولي الحق في تقرير المصير كمبدأ جوهري وقاعدة آمرة، لكن وفق أحد الأشكال الثلاثة المحددة في القرار الأممي 1541 لسنة 1960 وهي: الاستقلال، والحكم الذاتي، والاندماج.

وقد أيد مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، في قرارات عديدة، الحق في تقرير المصير لشعب الصحراء الغربية، منذ 1975.

ومن المعلوم أن المنطقة شهدت اختبارا للقوة في شكل حرب طويلة استمرت 16 عاما بين المغرب من جهة، وجبهة البوليساريو/الجزائر من جهة ثانية، انتهت بسيطرة المغرب واقعيا وفعليا على مجمل الأرض المتنازع عليها، لكن دون أن يُحسم النزاع قانونيا.

ومنذ بداية 1991، دخل الملف مرحلة ما يسمى بـ”التسوية السياسية”، بموجب قرار مجلس الأمن رقم 690 لسنة 1991 الذي يطرح حلا ينطوي على الاختيار بين الانفصال أو الاندماج، وقد أنشأ من أجل ذلك بعثة “المينورسو” من أجل تنظيم والإشراف على الاستفتاء، وضمان وقف إطلاق النار. لكن محاولة تنظيم الاستفتاء في الصحراء طيلة عقد التسعينيات من القرن الماضي انتهت إلى الفشل، بما في ذلك سقوط مخطط التسوية الذي سعى المبعوث الأممي الأمريكي، جيمس بيكر، إلى تطبيقه، وانتهى به الأمر إلى الاستقالة في يونيو 2004. وتزامن فشل بيكر في مسعاه مع تحول جوهري في خطاب الأمم المتحدة، نحو تفضيل الحلول التوافقية والواقعية.

صحيح أن الأمم المتحدة تشبثت دائما في كل تقاريرها حول الصحراء بمبدأ تقرير المصير، لكن منذ ذلك العام (2004)، غيرت من خطابها تدريجيا، إذ باتت تفضل استعمال عبارة “حل سياسي” بدل “تسوية سلمية” مثلا. ويعني ذلك التأكيد على الحل التفاوضي حصرا، وهو ما يؤكده مصطلح “توافقي” في مجمل القرارات المتتالية حول الصحراء.

ابتداء من 2007، تقدم المغرب بمقترح الحكم الذاتي، وقد اعتمده قرار لمجلس الأمن 1754 مطروحا فوق الطاولة، ووصفته القرارات الأممية في البداية بأنه “مقترح جاد”، ليتطور الوصف بالتدريج نحو اعتماد عبارة “جاد وذو مصداقية”، وصولا إلى “أساس جاد وذو مصداقية وواقعي”، وأخيرا وصفه بالحل “الأكثر جدوى”.

ويعكس التطور في الوصف تراكم الإجماع الدولي حول المقترح المغربي، وفي الوقت نفسه تغير أولويات مجلس الأمن نحو الحلول السياسية التوافقية، والعملية والمستدامة. وهو التغير الذي يعكسه القرار الأخير بعمق أكبر، إن لم يكن تتويجا له، بحيث يدعو الأطراف إلى اتخاذ المقترح المغربي “أساسا” للتفاوض من أجل الوصول إلى حل سياسي توافقي، دائم ونهائي، يكون “تحت السيادة المغربية”، و”يضمن تقرير مصير شعب الصحراء الغربية”.

ولعل السؤال الأساسي هنا هو: كيف نوفق بين منطوق القرار حول أولوية وأفضلية خيار الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية ومبدأ تقرير المصير؟ هل لا يزال الحق في تقرير المصير وفق تأويل البوليساريو حقا ذو أولوية، أم أن واقعاً قانونيا وعمليا جديدا قد خفض من أهميته بل من أولويته؟

من الناحية الموضوعية، يجب انتظار المفاوضات المقبلة لعلها قد تلقي مزيدا من الضوء على هذه المسألة. لكن في حدود التحليل الموضوعي كذلك لمنطوق القرار رقم 2797، هناك ما يكفي من الصيغ التي تسمح بالقول إن القرار الجديد يقوّض خيار الانفصال في حالة الصحراء، وربما قضى عليه نهائيا، وإن ترك الباب مفتوحا للجزائر والبوليساريو من أجل التدارك والالتحاق قبل أن تطوى الصفحة تماما بدونهما.

لكي نفهم هذا الطرح ينبغي استحضار التجارب المقارنة التي تسعف في القول إن الصيغ المرنة في نص القرار رغبة في التوافق مع البوليساريو والجزائر تشكل فرصة لهما ولكنها وسيلة ضغط كذلك. وأي فهم تقليدي ومتصلب لمبدأ تقرير المصير بات متجاوزا، لأنه في إطار الصلاحيات الواسعة للمجلس بشأن حفظ الأمن والسلم الدوليين، يمكنه تحديد الأراضي المتنازع عليها كما يمكنه فرض تسويات تفاوضية معينة، دون أن يكون ذلك خروجا على القانون الدولي.

ويبدو أن المجلس يحضر تدريجيا لهذا التطور بالضبط، أي فرض تسوية سياسية ونهائية وفي إطار السيادة المغربية.

لعل المقالة الذي نشرها “كوشتريم إستريفي”، أستاذ القانون الدولي في أوتريخت/هولندا، بعنوان “مجلس الأمن والصحراء الغربية: بين تقرير المصير والاعتراف الضمني بالسيادة المغربية”، يشير إلى هذا التوجه في قرار مجلس الأمن رقم 2797، ويستشهد برأي استشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن كوسوفو سنة 2010، خلصت فيه إلى أن “الممارسة المعاصرة لمجلس الأمن تُظهر أنه في حالات معينة، قد يقرر المجلس وضع شروط تقييدية للوضع الدائم في إقليم ما”، وقد قررت المحكمة أن “مخالفة هذه الشروط التقييدية، تشكل خرقا للقانون الدولي”.

في هذا السياق، وجدت محكمة العدل الدولية أن بنود قرار مجلس الأمن رقم 1244 بشأن كوسوفو لم تحظر إعلان الاستقلال، لكنها أوردت في المقابل عدة قرارات أخرى حظرت الاستقلال بناء على بنودها.

والملاحظ أن سلطات الحكم الذاتي في كوسوفو استغلت هذه الثغرة، وأعلنت الاستقلال سنة 2008. في المقابل، أكد قرار مجلس الأمن رقم 1251 بشأن قبرص أن “أي تسوية في قبرص يجب أن تستند إلى دولة قبرص ذات سيادة واحدة وشخصية دولية واحدة وجنسية واحدة، مع ضمان استقلالها وسلامة أراضيها”. وبالتالي، فقد وضع المجلس شروطا تقييدية محددة بشأن الوضع الدائم في قبرص. وهي شروط لا يمكن مخالفتها وفق رأي محكمة العدل الدولية.

بناء عليه، وفي ضوء تلك القرارات وحالات النزاع المماثلة، يمكن النظر إلى قرار مجلس الأمن رقم 2797 بشأن النزاع حول الصحراء، على أنه يحدد معالم ما هو مسموح به في الوضع السياسي المستقبلي للإقليم. ويشير إستريفي في هذا السياق إلى أنه إذا كانت سيادة المغرب على الصحراء تفتقر حتى الآن إلى السند في القانون الدولي، فإن قرار مجلس الأمن الجديد يسعى إلى إباحة ما كان غير مسموح به سابقا.

صحيح أن القرار الأممي لا يحظر أي نتائج تتعارض مع مقترح الحكم الذاتي، لكن مجرد الإقرار به كأساس للتفاوض “تحت السيادة المغربية”، يؤثر بشدة على الوضع النهائي المحتمل. وهو الوضع الذي تقرر واقعيا من الآن لصالح المغرب، المدعوم من لدن ثلثي الدول أعضاء الأمم المتحدة، والمدعوم من لدن الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، بما فيهم روسيا التي تعترف فعليا وعمليا بالسيادة الاقتصادية للمغرب على الصحراء.

لنفترض الأسوأ، أن ترفض الجزائر والبوليساريو الانخراط في عملية التفاوض المقبلة، رغبة منها في عرقلة مسار التوصل إلى أي اتفاق بشأن الوضع النهائي في الأمد المنظور. فإن ذلك لا يمنع، وذلك بفضل القرار الجديد، من تعزيز دينامية الاعتراف بالسيادة المغربية في الصحراء، فضلا عن تأكيد أفضلية مقترح الحكم الذاتي أساسا للحل النهائي. والدليل على ذلك، أن عدة دول صوتت على القرار من داخل مجلس الأمن، بالرغم من أنها لا تعترف حتى الآن بالسيادة المغربية.

بعبارة أخرى، يشكل القرار الأممي غطاء شرعيا وسياسيا للدول لكي تنخرط أكثر في دينامية الاعتراف الواقعي بالحل المغربي، وتسمح لنا بأن نفترض أن دينامية الاعتراف ستزداد أكثر في المستقبل، على اعتبار أن القرار يعني أن المغرب “بذل قصارى جهده للتوصل إلى تسوية”، وقد تقتنع الدول بأن جبهة البوليساريو والجزائر باتتا “عقبة أمام الحل النهائي”، وهو وضع لم يكن ممكنا قبل اتخاذ القرار 2797، وبات ممكنا اليوم بفضل القرار نفسه. علما أنه بموجب القانون الدولي نفسه، لا يمكن التزام بالتفاوض إلى أجل غير مسمى.

التحديات المقبلة أمام الحكم الذاتي

أمام تفعيل القرار الأممي مسارين: مسار الجمود، في حالة رفضت الجزائر وجبهة البوليساريو الانخراط في مفاوضات تحتضنها الولايات المتحدة الأمريكية، كما أشار إلى ذلك صراحة القرار الأخير. وفي هذه الحالة، لن يتوقف المسار الأممي وسيمضي إلى نهايته كما بيّنت في الفقرات السابقة أعلاه، أي تفعيل الاعتراف الدولي الواقعي بالسيادة المغربية للصحراء، دبلوماسيا واقتصاديا وأمنيا، وهو مسار بدأ، وانخرطت فيه قوى عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وروسيا والاتحاد الأوربي وقوى أخرى.

والمسار الثاني هو مسار التغيير، أي الانخراط في عملية التفاوض كما يحدد إطارها القرار 2797، بين الأطراف الأربعة: المغرب والجزائر وموريتانيا والبوليساريو. ويرتقب أن تلعب فيها الأمم المتحدة دورا قياديا، إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الأخرى.

في هذا الإطار طلبت الأمم المتحدة من المغرب إعداد مقترح مفصل للحكم الذاتي في الصحراء، وهو مقترح يتطلب مشاورات داخلية وخارجية، لكن المبعوث الأممي ديميستورا أشار في تصريحه الإعلامي الأخير حول مضمون القرار إلى مهلة شهر. وهي المهلة التي ينتظر أن تقدم خلالها جميع أطراف التفاوض تصوراتها للحل السياسي كما تتوقعه. علما أن القرار الأممي يؤكد صراحة أن التفاوض ينبغي أن يكون على أساس المقترح المغربي، بوصفه إطارا للحل.

في هذا السياق تبدو التحديات متنوعة ومعقدة، لأن الحكم الذاتي في الحالة المغربية لن يكون نتيجة تطور طبيعي للدولة، وإنما هو التزام مع المجتمع الدولي من أجل حل سياسي للنزاع حول الصحراء، ويقتضي هذا الوضع التفكير في صيغة للحكم الذاتي تكون متوافقة مع القانون الدولي وليس مع القانون الداخلي. علما أن هذا القانون الدولي وإن كان يعتبر الحكم الذاتي أحد خيارات تقرير المصير وفقا لنص القرار الأممي 1541، لكنه القانون لا يحدد آليات تنفيذ الحكم الذاتي، سوى التأكيد على الارتباط الحر والديمقراطي، وبوسائل ديمقراطية معروفة (استفتاء، استشارة شعبية، مفاوضات شاملة).

يركز القرار الأممي على آلية المفاوضات الشاملة، مدخلا من أجل بلورة تصور شامل للحكم الذاتي في الصحراء، لكنه لا يمنع تنظيم استفتاء أو استشارة شعبية لإقراره كحل نهائي. علما أن القرار يضع الإطار العام للتفاوض، ويحدد الأفق وهو “تحت السيادة المغربية”، لكنه يترك الباب مشرعا حول صيغة الحكم الذاتي الممكنة، وفقا للمصالح المتشابكة، ليس بين أطراف التفاوض الأربعة فقط، بل إن عملية التفاوض قد تشهد تدخل القوى العظمى كذلك، خصوصا التي لديها مصالح وتصورات هيمنية للإقليم ولمنطقة غرب افريقيا وللفضاء الأطلسي.

ومهما كان التصور النهائي للحكم الذاتي، فإن المغرب مقبل على إعادة هيكلة بنية الدولة المغربية، وهو خيار يقتضي تعميق التمايز بين مجال الدولة ومجال السلطة.

الأول، أي مجال الدولة، بوصفه مجالا للإجماع، ومجال الثوابت الجامعة المتمثلة في الوحدة الترابية/الوطنية، والدين الاسلامي، والنظام الملكي، والخيار الديمقراطي. هل ستظل هذه الثوابت محط إجماع؟ وهل ستقبل بها جبهة البوليساريو مثلا؟ علما أن مجال الثوابت قد تتأكد أهميته والحاجة إليه كلما تقدمنا في تنزيل الحكم الذاتي.

أما المجال الثاني، أي مجال السلطة، بوصفها مجالا للصراع والتنافس أو التعاون والتحالف، فهي تستدعي تحرير اللعبة السياسية. سواء تعلق الأمر بإعادة هندسة مجال الدولة أو مجال السلطة، يحتاج الأمر إلى دستور جديد.

ولعل التحدي الدستوري والقانوني يدور في جوهره حول حدود “تجزئة السيادة”، لأن خيار الحكم الذاتي يتطلب إعادة هيكلة بنية الدولة بين المركز، والحكم الذاتي، والجهة. وبناء التوازن بين الوحدات الثلاث ليس بالأمر السهل.

عمليا، قد يفضي الحكم الذاتي إلى سلطة موازية في الصحراء، وقد ينطوي هذا الخيار على احتمالات قد تقف حدود النماذج القريبة مثل “الباسك” في اسبانيا، وقد تصل إلى حد أقصى كما يجسده نموذج “نظامان ودولة واحدة”.

هل يمكن أن نستوعب هذا التصور الجديد للدولة في إطار وثيقة دستورية واحدة؟ أم سنحتاج إلى ملحق دستوري خاص بالحكم الذاتي أو إلى دستورين مثلا؟

علما أنه من الممكن تصور حكم ذاتي في وثيقة أو أكثر، لكن الأصعب منه الاستعداد للوضع الجديد في الصحراء، بما يطرحه من تحديات إنسانية ونفسية وأخلاقية، ناهيك عن التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي ستعيد خلخلة المجتمع الصحراوي في الأقاليم الجنوبية، وتختبر قدرته على الوحدة وعلى استيعاب آلاف الناس، من أجيال متلاحقة، عاشوا في مخيمات تندوف لعقود طويلة، وتشبعوا فيها بثقافة وقيم وتصورات وقناعات قد تكون على النقيض تماما من القيم والتصورات والسلوكيات السائدة أو التي تشكلت في الأقاليم الجنوبية طيلة العقود الماضية كذلك.

لا شك أن الكثير من القواعد والقيم والسلوكيات ستتعرض للصدمة، وقد يكون لكل ذلك تداعيات وتحديات تطرح إعادة بناء إشكالية الثقة، وتعيد طرح أسئلة شائكة حول “الوطنية المغربية” بوصفها أفقا جديدا للتفكير كما يقترح وسيط المملكة حسن طارق في كتاب بالعنوان نفسه.