story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

مطالبُ تحصين استقلال القضاء: مؤيدات ومرتكزات

ص ص

تقدم “نادي قضاة المغرب”، منذ تأسيسه إلى الآن، بعدة مطالب ذات بعد اقتصادي واجتماعي، وارتفعت وتيرة ذلك خلال الثلاث السنوات الأخيرة كتعبير عن عدم ملاءمة الوضعية المادية والاجتماعية للقضاة مع ارتفاع مستوى المعيشة. ولا شك في أن تحقيق هذه المطالب، بحسب الرؤية التي بلورها “نادي قضاة المغرب”، دعمٌ واضحٌ لاستقلال السلطة القضائية من زاوية تحصين القضاة الممثلين لها كأرضيةٍ صلبةٍ لتكريس الاستقلال الفردي والذاتي لهم.

وعلى هامش الترافع عن هذه المطالب، يثار نقاش حول بعضها من عدة زوايا، خصوصا مطلبي: المراجعة الدورية لأجور القضاة، وإقرار التعويض عن المردودية (الشهرين 13 و14) لفائدتهم. وهذا النقاش، وإن كان صحيا ومطلوبا في عمومه، فلا يعدو أن يكون في حقيقة بعض جوانبه مجرد محاولة لتهوين المطلبين المذكورين والتقليل من جدواهما وجديتهما، وهذا ما ستتولى تبديده هذه الورقة عن طريق إرجاع كل مطلب إلى ما يؤيده من مرتكزات ومسوغات.

بالنسبة لمطلب المراجعة الدورية لأجور القضاة، فهو يرتكز على عدة مؤيدات:

أولها: أن هذه المراجعة، هي من جملة المعايير الدولية ذات الصلة باستقلال القضاء، والتي يتعين على حكومات الدول مراعاتها في تشريعاتها الوطنية، وهي من الالتزامات الدولية ذات البعد المعنوي؛ إذ تم النص عليها في الفقرة “ب” من المادة 21 من إعلان مونتريال المؤرخ بـ 10 يونيو 1983 الصادر عن المؤتمر العالمي حول استقلال العدالة كما يلي: “تكون رواتب القضاة ومعاشاتهم ملائمة ومناسبة لمركزهم وكرامة ومسؤولية منصبهم. وتعاد تسوية هذه الرواتب والمعاشات نظاميا بشكل يجعلها مواكبة تماما لارتفاع معدل الأسعار”. يُعضد هذا:

ثانيها: أن إعلان “سينغفي”، في بنده 18-ب، كرس نفس المعيار بقوله: “يجب أن تكون رواتب القضاة ومعاشاتهم التقاعدية كافية ومتناسبة مع المركز الوظيفي والكرامة ومسؤوليات المنصب القضائي، على أن تخضع للمراجعة بصفة دورية لمواجهة أثر التضخم المالي أو التقليل من آثاره”.

ثالثها: أن هذا المعيار الكوني قد قُرِّر تدعيما لاستقلال السلطة القضائية بما يخدم المجتمعات الإنسانية، وذلك عن طريق الرفع من درجة تحصين هذه السلطة من الفساد الذي يُقَوِّض مبدأ الاستقلالية من الأصل، إذ إن الرفع من أجور القضاة ضمانا لملاءمتها مع مستوى المعيشة وارتفاع الأسعار يحمي القضاء من الفساد. وهذا ما يتأكد من:

رابعها: أن لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة قد عبرت عن قلقها من الأجور المتدنية المخصصة للقضاة، موصية في الفقرة 20 من الوثيقة عدد CCPR/C/UNK/CO/2 بـ: “اعتماد مستوى أفضل للأجور بهدف حماية القضاة من الفساد”. وإمعانا في ذلك، لم تلبث هذه اللجنة أن أكدت على نفس التوصية في مجموعة من الوثائق الصادرة عنها، كما هو الشأن في الفقرة 15 من الوثيقة عدد CCPR/CO/69/KGZ، حيث عبرت عن ذلك بقولها: “إن إجراءات التصديق المطبقة على القضاة (..) وتدني مستوى الأجور (..) كل هذه الأمور من شأنها تشجيع الفساد والرشوة”.

خامسها: أن هاتين التوصيتين ما كانتا لتُقَرَّر من طرف منظمة عالمية بحجم الأمم المتحدة لو لم تستحضر طبيعة المهام القضائية عن غيرها من المهام والوظائف، إذ هي المهام الوحيدة التي تُلزِم القائمين عليها بأقصى درجات: الاستقلال، والنزاهة، والحياد، حتى يستقيم النظام العام داخل المجتمع بمختلف مناحيه ؛ وذلك عبر سلطة القضاء المستقل، والمُحَصَّن من كل المؤثرات الخارجية بشتى أنواعها، بما فيها الضغط الاقتصادي والاجتماعي.

وتأسيسا على مجمل هذه المؤيدات، دعا “نادي قضاة المغرب”، في جملة من وثائقه المرجعية وأدبياته التصورية إلى: “تفعيل المبدأ الكوني القاضي بـ “المراجعة الدورية لأجور القضاة” بما يتلاءم مع مؤشرات المعيشة على أرض الواقع”.

أما بالنسبة لمطلب إقرار التعويض عن المردودية (الشهرين 13 و14)، فيرتكز على نفس الفلسفة المُوَجِّهة للمؤيدات السالفة، فضلا عن مؤيدات أخرى:

أولها: أن التعويض عن المردودية، ومعه الاستفادة من الحساب الخصوصي، معمول به – عن حق وصواب – لفائدة موظفي وأطر كتابة الضبط، سواء بالمحاكم أو بالإدارات المركزية والجهوية التابعة لوزارة العدل، علاوة على قضاة وموظفي المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، كما في جملة من الإدارات المغربية (الجمارك، الأملاك المخزنية، الوكالة القضائية للمملكة، الضرائب، المياه والغابات .. إلخ)؛ مما يعني أن هذا المطلب ليس بدعا في النظام المالي المغربي حتى نُهَوِّن منه لفائدة القضاة.

ثانيها: أن عدم شمول القضاة بالاستفادة من هذا التعويض خلافا لِمَن ذُكر مِن أطر الدولة، واستثناءهم لوحدهم في قطاع العدل والقضاء، فيه نوع من الإجحاف والإقصاء، وهو ما يستدعي التعجيل بإقرار حقهم في الاستفادة منه إنصافا لهم وعدلا.

ثالثها: أن هذا الإجحاف والإقصاء قد يؤثر سلبا على الاستقرار النفسي والاجتماعي والمهني للقضاة، لا سيما أمام الجهود المضنية التي يتحملونها، خصوصا في ظل الخصاص الكبير على مستوى الموارد البشرية بالمحاكم مقارنة بحجم القضايا المعروضة عليهم والأعباء الكثيرة الموكولة إليهم، وهو ما يتطلب إقرار إجراءات تحفيزية لفائدتهم. يؤيد هذا:

رابعها: أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية لا يفتأ يشدد على ضرورة التحفيز المادي للقضاة “باعتباره عنصرا أساسيا لتحقيق الاطمئنان والراحة النفسية [لهم]، وتشجيعهم على مزيد البذل والعطاء” (الورش 8 من مخططه الاستراتيجي).

خامسها: أن أحد مقومات الكفاءة القضائية في ضوء المعايير الدولية باعتبارها عنصرا مطلوبا للقيام بالمهام القضائية على أحسن وجه، هو أن يكون القاضي في وضع وظيفي مريح يسمح له بالتركيز على عمله وعدم الاضطرار إلى البحث والتفكير في مكاسب مادية خارجية، ولو كانت مشروعة، قد تضع استقلاله أو حياده موضع شك.

ولن يتأتى ضمان هذا الوضع الوظيفي المريح إلا بالاعتماد على نظام “التحفيز القضائي” المعمول به دوليا، والذي ينبني على مراعاة المبادئ الكلية التالية: 1- كفاية الأجر للعيش بالكرامة اللائقة بسلطة القضاء؛ 2- استقرار الأجر وعدم الانتقاص منه تحت أي ذريعة؛ 3- مراجعة دورية له بما يتلاءم مع مستوى المعيشة والتضخم.

وتحصيلا مما سبق، يتبين أن “نادي قضاة المغرب”، ومن خلال مجموع وثائقه المرجعية وأدبياته التصورية، ينظر إلى مبدأ استقلال السلطة القضائية نظرة شمولية غير تجزيئية، تهم كل جوانبه المتشعبة؛ السياسية منها والاجتماعية والمالية، وأن التحصين الاقتصادي للقاضي، بكل تمظهراته وتجلياته، هو بمثابة القطب الذي يجوب حوله رحى ذلك الاستقلال، ويبقى تفعيل مبدأ المراجعة الدورية لأجور القضاة والتعويض عن المردودية (الشهرين 13 و14) في طليعة الآليات الكفيلة بضمان ذلك التحصين في الظرفية الراهنة.