من كوبنهاغن إلى الدوحة: بين أزمات الأمم المتحدة وتحديات الجنوب
تنعقد القمة العالمية للتنمية الاجتماعية في الدوحة ما بين 4 و6 نوفمبر 2025، في ظرف دولي استثنائي يتقاطع فيه التراجع الملحوظ في أدوار منظومة الأمم المتحدة مع تصاعد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية عبر العالم. فبعد ثلاثين عاما على قمة كوبنهاغن التاريخية سنة 1995، التي أرست أول إجماع دولي حول العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر، يجد المجتمع الدولي نفسه أمام واقع مغاير كليا؛ “أزمة ثقة متنامية” في المؤسسات الأممية، و”استقطاب حاد” بين القوى الكبرى، و”تعثر شبه جماعي” في تحقيق أهداف التنمية المستدامة لأجندة 2030. وفي هذا السياق، تكتسب قمة الدوحة بعدا رمزيا واستراتيجيا، إذ تسعى إلى إحياء النقاش حول التنمية الإنسانية من جهة، وإلى اختبار مدى قدرة العالم على تجديد التزامه بالعدالة الاجتماعية في ظل التفكك الجيوسياسي من جهة أخرى.
- بين فكي الأزمة: قمة التنمية الاجتماعية في مواجهة انقسام العالم
تنعقد القمة العالمية للتنمية الاجتماعية في الدوحة في مرحلة دقيقة تتسم بتراجع غير مسبوق في قدرة منظومة الأمم المتحدة على التأثير والتوجيه. فالمؤسسة التي نشأت من رماد الحرب العالمية الثانية لضمان السلم والأمن الدوليين، تبدو اليوم عاجزة أمام تعدد الحروب من أوكرانيا إلى غزة والسودان، ومترددة في مواجهة الانتهاكات الإنسانية المتكررة، ما جعل مفهوم “الشرعية الدولية ذاته موضع تساؤل”. وفي ظل هذا الضعف، صعدت التكتلات الإقليمية والعابرة للأقاليم (مجموعة العشرين، بريكس.. ) كلاعبين مؤثرين في صياغة النظام العالمي الجديد، لتنتقل “شرعية القرار الدولي” من الأمم المتحدة إلى منطق القوة والمصالح الإقليمية.
إلى جانب الشلل السياسي، تواجه الأمم المتحدة “أزمة تمويل حادة” تهدد استقلاليتها ومصداقيتها. فاعتمادها المفرط على المساهمات الطوعية للدول الأعضاء جعلها رهينة للضغوط السياسية. فكان لتخفيض الولايات المتحدة وعدة دول أوروبية تمويلها لعدد من الوكالات الأممية، أبرزها وكالة “الأونروا”، أثر مباشرة على الخدمات الإنسانية. كما تتعرض منظمات أخرى مثل “منظمة الصحة العالمية” و”برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” لاتهامات بالبيروقراطية وضعف الكفاءة الميدانية، وهو ما عمق أزمة الثقة بين المنظمة والمجتمعات الدولية.
في هذا المناخ المأزوم، تأتي “قمة الدوحة” كمحاولة رمزية لإعادة بناء الثقة في الأمم المتحدة واستعادة بعدها الإنساني الذي تآكل بفعل السياسة. فالتركيز على قضايا الفقر، التعليم، العدالة الاجتماعية، والعمل اللائق يعكس رغبة في إعادة تعريف شرعية الأمم المتحدة باعتبارها “ضميرا أخلاقيا” للعالم، حتى وإن فقدت جزءا من قدرتها على ضبط ميزان القوة. فالقمة تحمل رسالة واضحة: “قد نكون خسرنا سلطة القرار السياسي، لكننا ما زلنا قادرين على إحداث فرق في معركة الكرامة الإنسانية”.
وقد سعت الأمم المتحدة خلال السنوات الأخيرة إلى دعم هذا التوجه عبر مبادرات كبرى مثل “قمة المستقبل” (2024)، و”الميثاق الرقمي العالمي”، و”التحالف العالمي من أجل العدالة الاجتماعية” الذي أطلقته منظمة العمل الدولية سنة 2024، إلى جانب تبني نهج “التحول الاجتماعي” الذي يربط بين التنمية وحقوق الإنسان والمناخ. كل هذه المبادرات تمثل “محاولات لإعادة ترميم صورة الأمم المتحدة كقوة أخلاقية وإنسانية” في عالم تسيطر عليه المصالح الضيقة.
غير أن المفارقة تبقى صارخة؛ فبينما ترفع القمة شعار العدالة الاجتماعية، تتسع الهوة بين الأغنياء والفقراء بوتيرة غير مسبوقة. إذ يملك أغنى 1% من سكان العالم أكثر من نصف الثروة الكونية، في حين يعيش أكثر من 700 مليون إنسان في فقر مدقع. كما كشفت جائحة كوفيد-19 هشاشة البنى الاجتماعية في الجنوب العالمي، حيث تراجعت مؤشرات التنمية البشرية في أكثر من 90 دولة. لذلك، يظل التحدي الحقيقي أمام قمة الدوحة في “الانتقال من الخطاب إلى الالتزام”، ومن “البيانات الختامية إلى آليات تنفيذ ومساءلة واضحة”، حتى لا تتحول إلى تكرار جديد لإخفاق “قمة كوبنهاغن 1995” التي وُصفت يوما بأنها “ولادة الضمير الاجتماعي للأمم المتحدة”.
- الانعتاق من فخ الأهداف: من إخفاق أجندة 2030 إلى فلسفة تنموية جديدة
يعد الاعتراف بفشل المجتمع الدولي في تحقيق أغلب أهداف “أجندة التنمية المستدامة 2030” منطلقا واقعيا وضروريا لأي نقاش جاد حول مستقبل التنمية الاجتماعية. فبعد عقد من إطلاقها، كشفت تقارير الأمم المتحدة لسنة 2024 أن “فقط 18% من الأهداف تسير في الاتجاه الصحيح”، بينما عرف نحو 37% منها تراجعا واضحا. في حين ارتفع الفقر بعد جائحة كوفيد-19 إلى أكثر من 9% من سكان العالم، وتدهورت أوضاع التعليم والصحة في بلدان الجنوب، وتفاقمت الفوارق بين الجنسين والمناطق. هذه الأرقام لا تعبر فقط عن تعثر في التنفيذ، بل عن “خلل بنيوي في فلسفة التنمية الأممية ذاتها”.
فمنذ التسعينيات، اعتمدت الأمم المتحدة مقاربة تقوم على نموذج تنموي كوني واحد، يفترض أن معايير التقدم يمكن أن تكون موحدة رغم تباين السياقات التاريخية والثقافية والمؤسساتية بين الدول. وقد وفرت أجندة 2030 إطارا مرجعيا واضحا من خلال 17 هدفا و169 غاية، لكنها في المقابل فرضت “رؤية تقنية ضيقة” تقيس التقدم بالمؤشرات الإحصائية بدل دينامية المجتمعات. فتحولت الأهداف في كثير من بلدان الجنوب، إلى “قوائم شكلية لتبرير التمويل الدولي”، بينما ظل جوهر التنمية غائبا عن الواقع المعيشي للمواطنين.
لقد تمحورت المقاربة السائدة حول منطق اقتصادي نيوليبرالي يربط التنمية بالنمو، لا بالعدالة الاجتماعية أو جودة الحياة. فحققت بلدان مثل الهند والبرازيل ونيجيريا نسب نمو مرتفعة في الناتج الداخلي الخام، لكنها فشلت في “تقليص الفوارق الاجتماعية أو تحسين الخدمات الأساسية”. وهكذا تحققت التنمية على الورق دون أثر إنساني فعلي، مما أدى إلى “تآكل الثقة في جدوى المقاربات الأممية الموحدة”، وأفرز وعيا جديدا بضرورة التفكير في نماذج محلية أكثر مرونة وملاءمة.
وفي هذا الإطار، برز توجه عالمي متنام يعرف بـ”التنمية المتموضعة محليا”، يقوم على أن التنمية “تنطلق من السياقات المحلية والجهوية”، لا من القوالب الجاهزة. فالتنمية لا تستورد من تقارير البنك الدولي، بل تبنى من القاعدة، من خلال فهمٍ عميق للثقافة المحلية، والموارد، والحوكمة، والعلاقات الاجتماعية. وتؤكد التجارب الدولية المتنوعة هذا المنحى؛ ففي أمريكا اللاتينية، ظهرت مبادرة(العيش الكريم) “Buen Vivir” في الإكوادور وبوليفيا، التي تعيد تعريف التنمية باعتبارها “عيشا جيدا في انسجام مع الطبيعة والمجتمع”، مستلهمة من فلسفات السكان الأصليين، لا من نماذج الغرب الصناعية.
وفي إفريقيا، تسعى دول مثل رواندا وإثيوبيا إلى بناء نماذج تنموية محلية تدمج بين “الحداثة الاقتصادية والروابط المجتمعية التقليدية” عبر برامج الحوكمة المجتمعية والتنمية الريفية التشاركية. أما في آسيا، فابتكرت فيتنام وكوريا الجنوبية مسارات تنموية تقوم على التصنيع والتعليم، فيما تبنت بوتان مؤشرا بديلا للناتج الداخلي الخام هو “مؤشر السعادة الوطنية الإجمالية” (GNH)، الذي يدمج القيم الثقافية والروحية في قياس الرفاهية. وقد دفعت هذه التجربة الأمم المتحدة سنة 2011 إلى إصدار قرار يدعو إلى اعتماد “نهج شامل للتنمية” يضع السعادة والرفاه الإنساني في قلب السياسات العمومية.
من هنا، لا يمثل الإخفاق في تنفيذ أجندة 2030 نهاية لمسار التنمية، بل بداية مرحلة مراجعة فكرية كبرى. فالتحول المطلوب ليس فقط في الأهداف، بل في المنهج ذاته، من “المركزية الأممية إلى التعدد المحلي”، ومن العمومية إلى الخصوصية، ومن الاقتصاد إلى الإنسان. إن الانتقال نحو نماذج محلية لا يعني الانغلاق عن العالم، بل “إعادة بناء العولمة من القاعدة إلى القمة”؛ من القرى والمدن والمجتمعات، لا من المكاتب الدولية في نيويورك وجنيف. بهذا المعنى، قد تشكل قمة الدوحة “منعطفا مفاهيميا يعيد تعريف التنمية بوصفها مشروعا إنسانيا مشتركا، ترسم ملامحه محليا، وتترجم نتائجه عالميا.
- بين الأوراش الكبرى والتأخر في مؤشرات التنمية: مفارقة المسار المغربي
استطاع المغرب في ضوء أجندة 2030، أن يحقق تقدما ملموسا في عدة مجالات اجتماعية وتنموية، من بينها محاربة الفقر، وتعميم التعليم الابتدائي، وتوسيع الولوج إلى الخدمات الصحية والماء الصالح للشرب. غير أن هذا المسار، على أهميته، لا يزال يواجه “تحديات بنيوية” تتعلق أساسا بالفوارق المجالية والاجتماعية، وضعف إدماج الشباب والنساء في الدورة الاقتصادية. هذه الإشكالات تمثل جوهر النقاشات التي تشهدها قمة الدوحة، وتجعل من مشاركة المغرب فيها مناسبة لتجديد موقعه كفاعل وسطي يسعى إلى “الموازنة بين الإصلاح الاجتماعي والانفتاح الاقتصادي”.
وفي هذا السياق، تتيح القمة للمغرب “تعزيز موقعه الدبلوماسي داخل المنظومة الأممية” عبر الدفاع عن رؤية تنموية تقوم على العدالة الترابية والتمكين المحلي. فالتجربة المغربية في “الجهوية المتقدمة” و”برامج التنمية المندمجة” تشكل نموذجا مصغرا لفكرة “النموذج المحلي” التي بدأت تكتسب زخما داخل الأمم المتحدة بعد إخفاق أجندة 2030. هذه المقاربة تجعل التنمية نتاجا ل”تفاعل المجتمع والدولة”، “لا استنساخا لسياسات جاهزة”، وتربط بين “الهوية الثقافية والمردودية الاقتصادية” في مشروع وطني متكامل.
وبالرغم من الزخم الكبير الذي رافق إطلاق الأوراش الاجتماعية والاقتصادية الكبرى في المغرب خلال العقدين الأخيرين، إلا أن “النتائج الملموسة على مؤشرات التنمية لا تزال دون مستوى الطموح”. فوفقا لتقارير الأمم المتحدة والبنك الدولي، ما زال المغرب يحتل مراتب متوسطة إلى متأخرة في مجالات التعليم، والصحة، والمساواة، ومناخ الأعمال. ويعود ذلك إلى بطء وتيرة الإصلاحات الهيكلية، وضعف التنسيق بين السياسات العمومية، واستمرار الفجوات المجالية بين المدن الكبرى والمناطق الهامشية، ما يجعل التنمية في كثير من الأحيان أقرب إلى “مشاريع بنية تحتية” منها إلى “تحولات اجتماعية شاملة”.
هذا التناقض بين “حجم الأوراش وضآلة الأثر” يعكس إشكالية أعمق تتعلق بطبيعة النموذج التنموي ذاته، الذي ظل يميل إلى “المقاربة الفوقية الممركزة”، ويعاني أحيانا من “ضعف الفعالية في التنفيذ والتقييم”. فالنمو الاقتصادي، رغم استقراره النسبي، لم يتحول بعد إلى نمو “منتِج للعدالة الاجتماعية وفرص العمل الكريمة”، فيما لا تزال الثروة الوطنية موزعة بشكل غير متكافئ. ومن هنا، فإن التحدي الحقيقي أمام المغرب لا يتمثل فقط في “إطلاق مشاريع جديدة”، بل في بناء “آلية مؤسساتية” تضمن “استدامة النتائج”، و”ربط التخطيط بالمساءلة”، حتى تتحول التنمية من شعار وطني إلى ممارسة مجتمعية تمكن المواطن من أن يكون “فاعلا لا مجرد مستفيد”.
- نحو إعادة تعريف التنمية في عالم متحول
لم تكن القمة العالمية للتنمية الاجتماعية في الدوحة حدثا بروتوكوليا عابرا في أجندة الأمم المتحدة، بل محطة حاسمة لاختبار قدرة النظام الدولي على تجديد “العقد الاجتماعي العالمي” في زمن تتكاثر فيه الأزمات الاقتصادية والبيئية والجيوسياسية. فقمة الدوحة، في جوهرها، تأتي في لحظة تشهد فيها “المنظومة الأممية تآكلا في شرعيتها وتأثيرها”، مقابل صعود تكتلات إقليمية جديدة تُعيد توزيع موازين القوة في العالم. وسط هذا التحول، تطرح القمة سؤالا جوهريا: هل تبقى التنمية مجرد معادلة تقنية تُقاس بالمؤشرات، أم تتحول إلى مشروع إنساني يستجيب لكرامة الإنسان وحقوقه الأساسية؟ بهذا المعنى، تمثل القمة محاولة لإحياء “الضمير الأخلاقي” للأمم المتحدة في عالم باتت تحكمه منطق المصالح أكثر من القيم. ورغم محدودية أدواتها التنفيذية، فإن قيمتها تكمن في إعادة فتح النقاش حول العدالة الاجتماعية والتضامن الدولي، بما يعيد للإنسان مكانته في قلب التنمية، وللتنمية معناها الإنساني في قلب العولمة.