من الداخلة.. جامعة إدريس الكراوي ترسم خرائط إقلاع إفريقي تقوده الجالية

شهدت مدينة الداخلة، من 9 إلى 11 أكتوبر 2025، انعقاد الدورة الخامسة لمنتدى الجمعيات الإفريقية للذكاء الاقتصادي الذي تنظّمه الجامعة المفتوحة للداخلة بشراكة مع جمعية الدراسات والأبحاث من أجل التنمية، تحت شعار: «الذكاء الاقتصادي والإقلاع الإفريقي المشترك.. أية أدوار لأفارقة العالم؟».
وعلى امتداد ثلاثة أيام، تحوّل نادي الضباط بالمدينة إلى منصّة جامعة لخبراء وأكاديميين وفاعلين اقتصاديين من المغرب ومن دول إفريقية وأوروبية وأمريكية، ناقشوا بأدوات علمية كيفية تحويل طاقات الجاليات الإفريقية عبر العالم إلى رافعةٍ للتنافسية والسيادة والتنمية المستدامة.
افتتاح احتفائي ورسائل رمزية
افتُتحت أشغال الدورة صباح الخميس في نادي الضبّاط بمدينة الداخلة بمنح الدكتوراه الفخرية لشخصيتين بارزتين تركتا بصمتهما في مجالي الاستشراف والذكاء الاقتصادي:
البروفيسور السنغالي عليون صال، أحد أعمدة دراسات الاستشراف في القارة والمدير التنفيذي لـ«معهد آفاق إفريقيا» بداكار، وصاحب مسار طويل في إدخال منهجيات التفكير المستقبلي إلى صناعة القرار العمومي وبرامج التخطيط بعيدة المدى.
الخبير الفرنسي آلان جويي، المسؤول السامي السابق المكلّف بالذكاء الاقتصادي لدى رئاسة الحكومة الفرنسية، والمدير الأسبق للاستخبارات في المديرية العامة للأمن الخارجي، وأحد الوجوه المؤسسة لترسيخ ثقافة الذكاء الاقتصادي كأداة تنافسية للدول والمؤسسات.
لم يكن التكريم بروتوكوليا فحسب؛ إذ اختار رئيس الجامعة المفتوحة للداخلة، الخبير الاقتصادي إدريس الكراوي، استبدال الروب الجامعي التقليدي باللباس الصحراوي المغربي عند تتويج المكرَّمين، في إيماءة رمزية تُجسّد فلسفة الملتقى في دورته الخامسة: وصلُ القيم الأكاديمية بالهوية المحلية، وتثبيتُ الجامعة في تربتها الثقافية مع انفتاحها على الأفق الإفريقي الرحب.
وحمل هذا الاختيار رسالة مضاعفة: الاحتفاء بخصوصية المكان وتراثه، وفي الوقت ذاته الإعلاء من قيمة المعرفة التطبيقية التي تخدم رهانات “الذكاء الاقتصادي والإقلاع الإفريقي المشترك”، وهو شعار الدورة التي جمعت خبراء وصنّاع قرار من القارة وخارجها.
اتفاقيات لتعميق الشبكات العلمية والمؤسساتية
على هامش الجلسة الافتتاحية، تم توقيع حزمة اتفاقيات تُمهِّد لبناء منظومة تعاونٍ مُستدامة. ويتعلق الزمر بكل من اتفاق إطار بين الجامعة المفتوحة للداخلة والجامعة الدولية ابن رشد لتبادل الأساتذة والطلبة وإحداث وحدات تكوين مشتركة في الذكاء الاقتصادي وحوكمة البيانات، إلى جانب بروتوكولات شراكة بين منتدى الجمعيات الإفريقية للذكاء الاقتصادي وكلٍّ من الصندوق الدولي للتضامن من أجل إفريقيا، ومركز أوتِوا للذكاء الاقتصادي ببنين، ومدرسة علوم المعلومات بالرباط.

وترتكز هذه الشراكات على أربعة مسارات عملية مترابطة هي:
• التكوين وبناء القدرات عبر دبلومات مهنية وزمالات قصيرة موجّهة لصنّاع القرار والأطر العمومية والقطاع الخاص؛
• البحث والابتكار المشترك من خلال مختبرات موضوعاتية (سلاسل القيمة الإفريقية، الذكاء التنافسي، سيادة البيانات) تُنتج دراسات قابلة للتطبيق؛
• تشبيك الفاعلين بإحداث منصّات رقمية وقواعد بيانات للكفاءات الإفريقية في الداخل والخارج لالتقاط الفرص وتيسير نقل المعرفة؛
• مرافقة السياسات بإصدار مذكرات سياسات وأوراق توصية موجّهة للحكومات والهيئات القارية مع آليات متابعة وتقييم ومؤشرات أثر.
ولا تقف الاتفاقيات عند حدود التعاون الأكاديمي التقليدي، بل تستهدف تحويل المعرفة إلى أدوات عملية تُرشد القرار العمومي والاستثمار الخاص، وتُسرّع إدماج الجاليات الإفريقية في مشاريع التنمية القارية.
الجالية.. من تحويلات مالية إلى شبكات نفوذ
وضعت الجلسات العلمية الجالية الإفريقية في قلب النقاش. وقدّم علي محرز، المسؤول بالوكالة المغربية لتنمية الاستثمارات والصادرات، قراءةً في حالة المغرب بيّن فيها أن عدد المغاربة المقيمين بالخارج يناهز 6 إلى 6.5 ملايين شخص، وأن تحويلاتهم تُرسّخ موقعها كرافعة مالية كبرى.
لكن محرز شدّد على أن القيمة الحقيقية تتجاوز التحويلات إلى الاستثمار ونقل التكنولوجيا وتكوين الشبكات، مقترحًا أدوات عملية لتعزيز هذا البعد، مثل بوابات مواكبة داخلية، وقواعد بيانات دقيقة للكفاءات، وتوجيهٌ مُحكم لهذه الطاقات نحو قطاعات عالية القيمة (التكنولوجيا، الطاقات النظيفة، الصناعات المتقدمة).
ومن زاوية «الهندسة الشبكية»، دعا نور الدين ثابت القادم من سويسرا، إلى التعامل مع «الجالية» باعتبارها منظومة معقّدة ومتعدّدة الأجيال والتخصّصات، لا كتلةً واحدة. وأبرز ثابت أهمية «التآزر» بين عوالم تبدو متباعدة، مثل التكنولوجيا وريادة الأعمال، الأكاديمي والصناعي، الثقافة والاقتصاد، مع ترسيخ ثقافة التوجيه (Mentoring) وردّ الجميل (Give Back) لبناء ثقةٍ دائمة بين الداخل والخارج.
وبدوره قدّم ناصر بوعبيد، عن الجمعية التونسية للذكاء الاقتصادي، حالة تونس التي تضخ جاليتها بالخارج مليارات الدولارات سنويًا، مبرزًا أن «العنق الزجاجي» يكمن في التعقيد الإداري وضعف التنسيق بين المؤسسات، ما يحول دون انتقال جزء أكبر من هذه الموارد إلى استثمارات إنتاجية مولّدة للشغل.
ومن بنين، اقترح أديبيسي داودو قراءةً تتجاوز الإطار الوطني الضيّق نحو «جالياتٍ إفريقية» عابرة للحدود، قادرة على الضغط الإيجابي لتحديث الاقتصاد وترسيخ ثقافة ديمقراطية وتنموية.
وفي السياق ذاته، عرض أدوم يوسف، رئيس الجمعية التشادية للذكاء الاقتصادي، كيف تحوّل حضور الجالية التشادية إلى فاعلٍ سياسي مؤسسي من خلال المشاركة في الحوار الوطني وتمثيلها في الحكومة والبرلمان.
دراسات حالة: موريشيوس، كندا، إيطاليا…
على مستوى الدراسات التطبيقية، قدّم ديف شامرو (موريشيوس) حالةً تُظهر كيف تحوّلت الروابط العائلية التقليدية إلى شبكات مهنية وابتكارية أطلقت قفزةً رقميةً في بلده، مع دورٍ محوري لقطاعي تكنولوجيا المعلومات والمالية.
وخلص شامرو إلى توصيات واضحة، تقضي بإقامة مرصد وطني للجالية، وبوابة موحّدة، وأدوات مالية موجّهة (سندات وصناديق للجالية)، ومساطر سريعة لاستقدام الخبرات…
وفي مقاربة أخرى، عرض الخبيران الكنديان جوناثان كالوف وكارل نيكولسون منهجيةً عملية لتعبئة الجالية الإفريقية في كندا عبر «ذكاء الفعاليات» وبناء شبكات «الصداقات» (Friendlies): ، وهم عبارة عن أشخاص ومؤسسات يرغبون فعلًا في نجاح بلدٍ إفريقي محدّد. وتتوزّع توصيات العرض الكندي بين الجامعات (استثمار شبكات الخريجين)، والبلديات (مسارات للسفراء الاقتصاديين)، والسفارات (إدارة قواعد بيانات للشبكات وتغذيتها بفرصٍ ملموسة).
أما في «العتاد المعرفي»، فقدّم المغربي عبد الرفيع لحمام، الباحث المغربي المقيم في فرنسا، حلًّا برمجياً لمعالجة اللغة الطبيعية قادرًا على تلخيص وثائق بـ21 لغة و150 مجالاً اعتمادًا على «سحابة المفاهيم»، مع قابلية نشرٍ محلي يحترم خصوصية المعطيات، في ما اعتُبر نموذجًا لنقل ابتكارات الجالية إلى حاجات الذكاء الاقتصادي الإفريقي.
ومن منظورٍ سوسيو-ديمغرافي، قدّمت الدكتورة مونيا علالي قراءة في دينامية الجالية المغربية بإيطاليا: جيلٌ ثانٍ يصعد في الأكاديميا والاقتصاد المحلي، أكثر من 15 ألف مقاولة مغربية، وتحويلاتٌ و«هجرة عائدة» تتجاوز التقاعد إلى الاستثمار وإحداث فرص الشغل.
منظور جنوب إفريقيا
قدّمت الخبيرة الجنوب إفريقية نيشا سوداس إطارًا تشغيليًا يُشغّل الذكاء الاقتصادي عبر أربعة أعمدة هي: خرائط المخاطر والإنذار المبكر؛ استخبارات سلاسل القيمة للانتقال من المواد الخام إلى المنتجات المكرّرة؛ والتموضع التنافسي في الأسواق؛ و«تأطير السردية» لصالح إفريقيا.

وعلى صعيد السياسات، أشارت إلى أن جنوب إفريقيا لا تمتلك بعد سياسة موحّدة للجالية، لكنّها تراكم لبناتٍ قطاعية، مع توصياتٍ بمواءمة هذه الجهود مع أجندة 2063 ومنظومة «سادك»، وإبداع مسارات «عودة مؤقتة أو دائمة» للكفاءات لا تُقيد الحركة وتُعظّم الأثر التنموي.
نحو تصميمٍ إفريقي لسياسات الجاليات
في كلمته الختامية لفعاليات هذه الدورة، لخّص إدريس الكراوي، رئيس الجامعة المفتوحة للداخلة ورئيس منتدى الجمعيات الإفريقية للذكاء الاقتصادي، ما اعتبره «دروس الدورة الخامسة» في ثلاث خلاصات مركزية:
- مركزية الجاليات في أيّ تصوّر مستقبلي للإقلاع الإفريقي؛ ليس لأسباب ديمغرافية فقط، بل لما تختزنه من امتيازات تنافسية وشبكات ومهارات.
- مركزية إفريقيا نفسها في النقاش العالمي حول الجاليات؛ فالقارة ليست موضوع هجرةٍ وحسب، بل مصدرًا لرأسمال معرفي وشبكيّ قابلٍ للتحويل إلى نفوذٍ اقتصادي وسيادي.
- لا نموذج موحدا للسياسات العمومية تجاه الجاليات؛ فلكل بلدٍ خصوصياته، ما يستدعي تصميمًا وطنيًا مرنًا ضمن إطارٍ قاريٍّ منسّق.
وأوضح الكراوي أن التحدي يبدأ من المفهوم ذاته، أي ما «الجالية»؟ إذ تختلف التعاريف بين المنظمات والحكومات، ويتباين تبعًا لها تقدير الحجم والامتداد (حتى أحفاد العبيد الأفارقة في الأمريكيتين ضمن تعريفٍ شامل).
وأبرز الكراوي نقصًا واضحًا في المعرفة الدقيقة بتركيبة الجاليات ومساراتها ومهاراتها، مقابل إمكاناتٍ كبيرة غير مستثمرة وسياساتٍ عمومية متفرّقة ومتباعدة الفاعلين. ومن ثمّ دعا إلى إنشاء بنيةٍ قارية متخصصة في موضوع الجاليات، تُربط بمنتدى الجمعيات الإفريقية للذكاء الاقتصادي لتولّي وظيفة الرصد والتنسيق وتقييم الأثر.

طاقة الجالية والذكاء الاقتصادي
أظهرت دورة هذه السنة أن «الذكاء الاقتصادي» لم يعد ممارسةً تقنية مقتصرة على جمع البيانات، بل صار عدّةَ قرار تربط التحليل بالسياسة وبالابتكار وبصناعة السرديات. ومن بوّابة الجالية—المغربية والإفريقية—قدّم المنتدى مساراتٍ عملية لتحويل التحويلات إلى استثماراتٍ منتِجة، والحنين إلى شبكاتٍ احترافية، والنجاحات الفردية إلى رأسمالٍ جماعي قابلٍ للقياس.
بذلك رسّخت الجامعة المفتوحة للداخلة موقعها كمنصّة مغربية-إفريقية لصياغة أجوبة عملية على سؤالٍ واحدٍ بصيغٍ متعددة: كيف نُشغّل طاقات «أفارقة العالم» في خدمة إقلاعٍ إفريقي مشترك؟