“جيلZ” يحرج المؤسسات بأسئلة عميقة

أعتقد أن ما نشهده خلال الأيام الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، يؤكد أننا بصدد مبادرة شبابية لا ينبغي التسرع بتأويلها سياسيا على أنها حركة اجتماعية، بقدر ما ينبغي التعامل معها على أنها محاولة تلقائية تتفاعل مع شكوى المواطنات والمواطنين المرتفقين من واقع تردي الخدمات العمومية الأساسية، خاصة الصحة.
من هذا الباب أعتقد بأنه سيكون من المجازفة أو من الإجحاف أن نتعامل معها بإسقاط خطي لما وقع من قبل مع حركات احتجاجية سالفة، كما أنه ينبغي علينا في نفس الآن أن نعتبر بما وقع على امتداد 15 سنة من الديناميات الاجتماعية، والتي أفرزت شعارات وأشكال نضالية تعاملت معها الدولة ومؤسساتها بحذر وحيطة وتفهم تارة، وباللجوء لاستعمال القوة العمومية في أخرى.
في الحالتين معا، ثبت أن هذه الديناميات كلما زادت درجة التعامل معها بنفس أمني، زادت راديكالية.
أنا أعتقد إذن أنه ينبغي للأحزاب السياسية المشكلة للحكومة أن تكون على درجة أكثر مشاركة في إيجاد الحلول واقتراح المبادرات التي بإمكانها تفادي اللجوء إلى المساطر القانونية فيما يخص حماية الرصيف العمومي واللجوء الآلي إلى إعمال القوة العمومية.
بالنسبة إلي، ومن خلال تفحص البيان الذي أصدرته هيئة رئاسة الأغلبية الحكومية، يبدو لي أنه لم يخرج في حيثياته وفي طريقة تبريره لمواقف الحكومة على ما درجت عليه البلاغات الحكومية وأحزاب الأغلبية في تعاطيها مع الحركات الاحتجاجية، على الأقل مع حراك الريف، إذا قرأنا هذا البيان سنلاحظ أن هناك تشابه كبير بينه وبين بلاغ المجلس الحكومي لـ18 ماي 2017، وبلاغ أحزاب الأغلبية الحكومية لـ 19 يوليوز 2017.
بمعنى أن هناك صعوبة للمدبر الحكومي في إيجاد آليات اشتغال على هذه المبادرات، خارج المتعارف عليه في التعامل أو في التعاطي مع الاحتجاجات التي عادة ما تكون مؤطرة بإطار نقابي، أو بنص قانوني يدخل في باب ما استؤنس به في التعاطي مع الإضرابات والاحتجاجات التي تكون مؤطرة بقانون.
هذه الفئة من الأشخاص، بالنسبة لي، هي مجموعات تنشط باجتهاد كبير واستثمار مبدع لما تتيحه الفضاءات الإلكترونية من مساحة للتعبير. وإذا تابعنا مثلا اشتغالهم داخل منصة “ديسكورد”، يظهر أنه كلما زاد الضغط على هؤلاء وزاد عدم إتاحة الفرصة للتعبير في الفضاء العمومي، زاد الإقبال على هذه الأرضية.
ففي خمسة أيام، كنا أمام 11 ألف مشارك في هذه الأرضية، ووصلنا الآن إلى أكثر من مئة ألف. أي أننا بصدد دفع هؤلاء الشباب إلى فضاءات غير محروسة وغير مقيدة بقانون. لذلك أنا أعتبر أنه من الضروري في هذه المرحلة أن نفتح لهم المجال العام الحقيقي للتعبير عن مطالبهم، والتي لا يمكن أن نعتبرها مطالب فئوية بل هي مطالب تتفاعل بطريقة تلقائية مع ما يحدث من شكوى للمرتفقين بسبب تردي الخدمات العمومية الأساسية.
تؤكد هذه الدينامية أن الحق في التنمية أصبح هو المعطى الحاسم في أي سياسة وفي أي محاولة للاشتغال على أثر اجتماعي يناسب طموحات المواطنين. نحن أيضاً أمام واقع يؤكد أن هؤلاء الشباب أكثر وعيا بالحقوق المواطنة، وهو يحرجون المؤسسات بأسئلة تبدو أنها عفوية، لكنها عميقة من ناحية مضمونها.
يقول أحد الشباب مثلا لرجل أمن: “لماذا تمسك بي؟ أنا لا أحمل لا سلاحا، ولم أخلّ بالحياء العام.. ولم أرتكب أي جرم يجعلك تعتقلني.. أنا في الرصيف العمومي”. هذا الإحراج وهذه المرافعات التي يجتهد هؤلاء الشباب في رفعها تؤكد أن المطلوب الآن هو الاجتهاد خارج الأدوات المستعملة عادة في فض الاحتجاجات في الرصيف العمومي، وتحتاج أيضا إلى مقاربة أكثر اجتهادا، وأكثر إبداعا لما تضمنه الدستور من ناحية الديمقراطية التشاركية، خاصة الفصل 13 الذي للأسف لحد الآن لم تشتغل الحكومة على تنزيله، والذي يهم التشاور العمومي. وأنا مع تفتح فضاءات للنقاش العمومي في جميع المدن الكبرى والمتوسطة، ويمكن أن تنظم من داخل مؤسسة حكامة مثل “الوسيط” أو “المجلس الوطني لحقوق الإنسان”، ويستدعى إليه جميع المواطنين والمواطنات لفتح نقاش حول الخدمات العمومية والتوصيات بشأن تطوير أدائها، خاصة على مستوى قطاع الصحة والتعليم، وينتج عنها في مرحلة لاحقة، اتفاقية مواطنة بإمكانها أن ترتفع من طرف ممثلين يقدرون على هذه الحلقات النقاشية التي ستكون على مستوى التراب الوطني، وترفع لكي تصبح ملزمة للحكومة، كي تأخذ بها لتجويد اشتغالها وتصوراتها.
أما أن ننظر إليها بنظرية المؤامرة أو بنظرية ضرورة أن نشتغل عليها انطلاقا من قوالب تنظيمية صارمة وتعتمد مساطر تبنى على قانون الاحتجاج أو قانون الإضراب، فأنا لا أتفق مع هذه الطريقة، لأن هؤلاء الشباب غير مبالين إطلاقا بما يكتب على أساس أنه قانون. علينا أن نتعامل مع هؤلاء بطريقة تربوية تعتمد على الإنصات الإيجابي، فكلما دفعناهم ليصمتوا في الشارع العام، أبدعوا في فضاءات غير محروسة بقانون، والتي تتثمل في الفضاءات والوسائط الإلكترونية.
أنا أقول وأعيد: نحتاج في هذا الزمن كثيراً من “الخاطر” مع هؤلاء الشباب لكي يمكن أن نشركهم بطريقة متدرجة، وبطريقة بناءة في نقاش عمومي يؤسّس على الإنصات الإيجابي، وعلى عدم استعجال الترتيبات المقولية، أي أن نقول إن “هؤلاء محسوبين على هؤلاء”.
في نظري، يجب ترك الإسقاطات التي يمكنها أن تفرغ النقاش العمومي من محتواه الأصلي. هؤلاء مواطنون جاءوا للتعبير بشكل تلقائي على فهمهم وتقديرهم لما يسمى بالحق في المواطنة. يجب أن نكون قادرين، خاصة الأحزاب والحكومة وكل من هو مسؤول عن الوساطة الاجتماعية والسياسية، على الاشتغال معهم في إطار من المقاربة الأفقية التي تلغي التراتبيات التي تفرض نوعا من الولاية في رسم حدود ما يسمح به في النقاش العمومي.