story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

صرخة “جيل Z”

ص ص

ما جرى في المغرب من السبت (27 شتنبر 2025) إلى الاثنين شيءٌ، وما حصل منذ ليلة الثلاثاء في مناطق مهمّشة شيء آخر. أفسد الاحتجاج العنيف بعض ما تحقّق في 3 ليالٍ خلال تظاهرات “جيل زد” السلمية.

تحصينُ احتجاجات السبت والأحد والاثنين من آثار العنف الذي اندلع الثلاثاء وما بعده مسؤوليةُ المجتمع، وأيضا الدولة، وليس مسؤولية محتجي “جيل زد” السلميين. الاحتجاج العنيف، والذي اتخذ بُعداً إجراميا بمهاجمة مقرات أمنية، ومنشآت خاصة وعامة، يجب أن ينتهي، ويجب تفسيره، والتحقيق في حدود “عفويته” أو “توجيهه”.

العنف مدانٌ ومرفوض، عن أيٍّ صدر: عن السلطة أو عن المحتجين. ولا مجال لتقديس أفعال الدولة، كما لا مجال لتقديس أفعال المجتمع. الخطأ خطأ.

وطنٌ خرِبٌ ومنهارٌ أمنياً لا مصلحة لأحد فيه، وهدفُ أي احتجاج إحداثُ أثرٍ إيجابي، لا إضافة الرّكام فوق الخراب.

رسالة “جيل زد” السلميين وصلت. وإنْ كان يختبئ خلفهم مخربّون فهذا ليس خطأ السلميين، بل يستدعي جواباً مُستعجلا من الدولة، لقطع الطريق على تخريب مسار المطالَبَة السلمية. أمّا إغلاق الفضاء العام أمام التعبير السلمي فسيكون مجرّد تدوير للأزمة.

وإن كان هذا التقديمُ واجباً الآن، فإن دخانَ ما فعله المخرِّبون لا يجب أن يغطي عن القصة الحقيقية ويستحوذ على المشهد. ما فعله “شباب زد” خلخل كل شيء، ولو توقّف في أي لحظة. كل تلك المقولات التي لا تؤدّي إلّا غرضَ التنويم سقطت. الاستقرار الذي لا يستند إلى نجاعةٍ في الحكم يَلمسها المواطنون في تفاصيل حياتهم وهمٌ كبير.

“جيل زد” فاجأ الجميع، وأربكَ الدولة. كانوا أذكياء من جهتين: وضوح المطلب وتكثيفه في (صحة، تعليم، محاسبة)، ووضوح الجهة المستهدفة بالفعل، التي قرّروا أنها عند سقف الحكومة.

الدولةُ مسؤولة عن كثير من التطورات التي جرت منذ السبت. رد الفعل الأمني لم يكن متناسِباً في الثلاثة أيام الأولى في مواجهة شباب لم يصدر عنهم أيّ عنف، قبل أن تتدهور الأمور ليلة الثلاثاء/ الأربعاء، حين انتقلت الاحتجاجات إلى مدنٍ أصغر.

الاحتجاجات الاجتماعية في تاريخ المغرب عنوان فشل الحكومات، يستدعي تدخّل الحكم. احتجاج مواطنين يعني أنهم فقدوا الثقة، وصرخةٌ تحيل إلى مشكل في مؤسسات الوساطة، والمؤسسات التمثيلية، وقصور فادح في السياسيات وتنفيذها.

احتجاج “جيل زد” عَرَضٌ وليس مرضاً. وعنفُ العنيفين أيضاً عَرَض غير مرغوب. الحرارة التي سرت في جسد المغرب تحتاج علاجاً آنياً ومُستداماً، لا مسكّنات، أو مراوغات. أما الاستغراق في لغة التطمينات والثقة في أن “الأمن مُسْتَتِب” فهو تحديدا ما مهدّ للوضعية الحالية.

عندما تعتقد أيّ دولة أن الشعب صار في “الجَيْب” عليها أن تحذر. وحين يتمدّد العقل الأمني إلى مساحات تشوّش على مسار الديمقراطية، ويصير مهووساً بـ”اللّقطة”، يجبُ أن تُدَقّ أجراسُ الخطر. وعندما يمدّ الرأسمال رجليه في السلطة ويتعامل مع المواطِن كزبون مغفّل يجبّ التنبّه. أما إذا حوّل سياسيون الانتخابات والحزبية إلى مزادٍ مفتوحٍ لمن يدفع أكثر للوصول إلى المقعد التمثيلي، فانتظر القيامة.

أخنوش حين اعتلى البرلمان ليدافع عن مشروع دولة “فوّته” لإحدى شركاته كان يستخفُّ بالشعب، ويفْتِل في حَبْل الغضب.

رئيس الحكومة تحمّس قبل أسابيع وجزم أن الشعب “فرحان”، ثم أتى الجواب من الجماعة الترابية التي يرأسها. ووزيره في الصحة ردّ على مسؤول في مستشفى بمكناس بـ”سير للرباط واحتج”، مُتناسياً أنه يمثّل “الرباط”، إلا إن كان يقصد “رباطاً” آخر. هذه خفّة في القول والفعل تثبت أن الحساب البنكي الضخم قد ينجح في تدبير أمورِ شركة، لكنه لا ينجح دوماً في إدارة شؤون شعب.

عندما يصيرُ الهوّاةُ والساقطون بالمظلّات و”سياسيو الغفلة والهمزة” وزراءَ ومسؤولين عليك توقّع الكوارث. الذين كانوا يبشّرون بالاعتناء بالمغاربة “من المهد إلى الشيخوخة”، وعندما اندلعت الاحتجاجات، اختفوا لأيام كأنهم أشباح.

هذه نتيجة طبيعية لتجريف السياسة وإضعاف المؤسسات التمثيلية. البرلمان الذي يتردد جزء منه على النيابات العامة صباح مساء للتحقيق في الفساد، ويُحاكَم بعضُه بالاتجار الدولي في المخدرات، ويمرّر القوانين لصالح الفئة، ويتم إغراقه بـ”فراقشية السياسة”، يستخفّ بالشعب.

الوزير الذي يعبث بالإعلام ويقود مشاريع التنميط والإخضاع، وقتل الصحافة، يستخفّ بالشعب وبحقّه في صحافة حقيقية. وحتّى إذا جدّ الجد لم يلجأ إلى الصحافة التي يبشّر بها، بل إلى بودكاست توعّد أصدقاؤه بإنهائه.

كثيرون ردّدوا حتى بحّت أصواتهم أن ما جرى خلال السنوات تقريبٌ لنارِ سوء التدبير وسوء ترتيب الأولويات من زيت الغضبِ، وأن التغوّل على الشعب يُورِد المهالك، وأن التضييق على معيش الناس يؤذنُ بالانفجار، وأن الاحتفاء بملاعب مليارية ضخمة وفاخرة، فيما لا يجدُ مرضى أجهزةً وأسِرّةً وعنايةً في المستشفيات العمومية، جالبٌ للغضب.

ومع ذلك، كل هؤلاء عابرون وطارئون استثمروا في وضعيةٍ خطأ. أخنوش وكل هذا الكومبارس فواصِل في حِسْبة دولة تخلّت لسنوات عن شباب يائسٍ يُفزعه المستقبل، واعتقدت أن زرواطة الأمن وحدها قادرةٌ على ضبط الأوضاع، وأنه لا حاجة للبلد بأحزاب، ولا بنقابات، ولا بجمعيات، وأن الإعلام ترفٌ من الترف يمكن تركته للّعب الصغير، وإيداعه بين أيدي من لا يرون أبعدَ من أنوفهم وهم يحوِّلون القطاع إلى مجرد أرقام معاملات، وإجراءات تأديب، ووعود بمكاسب مادية.

الدولة كانت تعرّي نفسها وهي تقمع المعارضين واحدا واحدا، وتسجن الصحافيين وتقتل الإعلام وتسمح بالتمثيل بجثته، وحين كانت تسيء للسياسة بتصعيد المعزولين المفصولين عن الشعب، وعندما أطلقت يد الجشعين لتنفيذ “أكبر عملية اغتناء في تاريخ البلد”. الناس يمكن أن تصمت بعض الوقت، ووهمٌ كبير أن يتوقّع أحدٌ أنها ستصمت طول الوقت. وفي هذا الركن طالما كتبتُ أنّ المغاربة مجتمع، وليسوا موتى في مقبرة.

غضب “جيل زد” لا يُفترض أن يكون مفاجئا للدولة. نتائج الإحصاء العام للسكنى وأرقام مندوبية التخطيط بشأن الشباب كانت تصرخُ بكل شيء.

قصارى القول

دسّ الرأس في الرمال غير مفيد. على الدولة أن تواجه الحقائق كما هيّ. نكران الواقع جزءٌ من المشكل. هناك سلم أولويات يجب أن يتغيّر. شباب “جيل زد” كانوا واضحين وهم يطالبون بالصحة وبالتعليم، وبالمحاسبة. هذه حقوق ومطالب الحد الأدنى، وليست كماليات، ومن جملة مسؤوليات الدولة وواجباتها.

مطلب الحريّة من صميم التغيير. لا تنمية بدون ديمقراطية. الناس لا تعيش بالخبز وحده. بتظاهرات الشباب تأكدت محدودية المقاربة الأمنية، التي قد تنجح في ترحيل المشاكل، لكنها لا تحلّها. الاستقرار يبدأ من هنا. الاستقرار الذي يضمن مصلحة المجتمع والدولة، لا في اتجاه واحدٍ.

أما العابرون فعابرون في السلطة. قد تستقيل أو تُقال حكومة ويسقط برلمان، أو يُعفى مسؤول، ودوماً هناك في النظام السياسي أصحابُ مصلحة حقيقية مع الشعب، يجب أن تُرعى، بقدرٍ كبير من الحرص، على الوطن، الذي لا يمكن أن يختطفه العابرون.