المونديال بين الفرصة الاقتصادية ومخاطر تقييد الحريات

في أكتوبر 2023، أعلن الاتحاد الدولي لكرة القدم عن فوز المغرب، إلى جانب إسبانيا والبرتغال، بشرف تنظيم كأس العالم 2030. جاء هذا الإعلان في وقت يشهد فيه المغرب تحولات استراتيجية في بنيته التحتية، وسعيا نحو تثبيت موقعه كقوة إقليمية صاعدة. غير أن هذا “الإنجاز الرياضي” لا يخلو من إشكالات وتساؤلات عميقة، أبرزها: هل يشكل كأس العالم فرصة تنموية واقتصادية حقيقية تسهم في تحسين حياة المواطنين؟ أم أنه، كما أثبتت تجارب دولية كثيرة، يُمكن أن يتحول إلى مدخل لتفاقم الفوارق الاجتماعية وإفقار فئات واسعة من السكان، في ظل إنفاق هائل على مشاريع استعراضية لا تلبي الحاجيات الأساسية؟ وعلاوة على ذلك، يطرح سؤال الحقوق والحريات: هل ستستغل هذه المناسبة لتعزيز الديمقراطية والانفتاح، أم لتشديد الرقابة وتقييد الحريات؟
وفي هذا الإطار، يناقش هذا المقال المحاور الثلاثة الرئيسية التي تحيط بحدث استثنائي يترقبه المغاربة والعالم: الفرص الاقتصادية والتنموية، التحديات الاجتماعية الناتجة عن تركيز الميزانية على تشييد الملاعب، والمخاطر الحقوقية المصاحبة للاستعدادات التنظيمية.
يمثل تنظيم كأس العالم 2030 فرصة غير مسبوقة للمغرب من أجل تحقيق نقلة نوعية على المستويات الاقتصادية والتنموية، ليس فقط من خلال الترويج لصورته كبلد منفتح وطموح، بل أيضا باعتباره ورشا ضخما لإعادة تشكيل البنية التحتية وتعزيز الاستثمارات الأجنبية.
وبحسب تقارير دولية، تُقدر العوائد الاقتصادية لمثل هذه التظاهرات بمليارات الدولارات، سواء عبر الرفع من مداخيل السياحة، أو من خلال تنشيط قطاعات حيوية كالنقل، الاتصالات، الفندقة، والتجارة. فخلال كأس العالم 2018، قدرت روسيا مكاسبها الاقتصادية بأكثر من 12 مليار دولار، بينما سجلت جنوب إفريقيا نموا ملحوظا في الاستثمارات والبنية التحتية بعد تنظيمها لنسخة 2010.
وفي السياق المغربي، لا تخفي الحكومة طموحها في استثمار هذه الفرصة لتسريع التحول التنموي. فقد صرح رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، خلال افتتاح النسخة الثامنة من منتدى “المغرب اليوم” بالرباط، بأن “تنظيم المملكة المغربية، بشكل مشترك مع البرتغال وإسبانيا، لبطولة كأس العالم 2030 هو أكثر من مجرد تظاهرة رياضية عالمية”، مبرزا أن “هذا الحدث يشكل بالنسبة لبلادنا رافعة ومحفزا لتحول استراتيجي، وفرصة على جميع المستويات لتجسيد الإرادة الملكية السامية في تعزيز ركائز مغرب يشهد دينامية تنموية، مغرب دامج وسيادي.”
كما أضاف: “هذا الطموح الجماعي والزخم الوطني يعزز ثقتنا في قدرة بلادنا ليس فقط على رفع تحدي تنظيم مونديال 2030، بل وجعله انطلاقة جديدة لمسار التنمية.” وتشير التقديرات إلى خلق حوالي 250 ألف وظيفة مؤقتة في قطاع البناء والأشغال العمومية، وحوالي 100 ألف وظيفة شبه دائمة في السياحة والضيافة.
ورغم تفاؤل هذا الطرح الرسمي، إلا أن التجارب الدولية السابقة تُظهر أن الرهان على “التحول التنموي” المصاحب لمثل هذه التظاهرات غالبًا ما يصطدم بتحديات على أرض الواقع. فكثير من المشاريع تُنفذ أحيانا في سباق مع الزمن، دون رؤية تشاركية أو مردودية اجتماعية عادلة، مما يثير تساؤلات مشروعة حول مدى قدرة الدولة على ضبط الأولويات وفقا لحاجيات المواطن، لا فقط لمتطلبات الترويج الخارجي؛ وما إذا كان الخطاب التنموي المرافق للمونديال سيُترجم فعلا إلى مكاسب ملموسة للطبقات الوسطى والفقيرة؛ وهل ستراعى مبادئ الشفافية والمساءلة في صرف الاستثمارات، أم سيتكرر مشهد “مشاريع المناسبات” التي تتلاشى آثارها بعد انتهاء الحدث؟
وفي هذا الإطار، دق المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية والرقمنة “ناقوس الخطر” في مرحلة وصفها بـ”الحرجة”، وقال إنها “تجمع بين فرص واعدة ومخاطر بنيوية عميقة”. وأوضح المركز في تقريره بعنوان “سوق الشغل المغربي: بين هشاشة الحاضر وفرص الغد”، أنه بينما يحتفي الاقتصاد بدينامية مرتبطة بالاستعدادات لتنظيم كأس العالم 2030، “تكشف نظرة فاحصة عن هشاشة مقلقة”.
بالفعل، إن هذه الدينامية قد تشكل رافعة لتحسين مناخ الأعمال وتوفير آلاف فرص الشغل، لا سيما في أوساط الشباب. كما أنها فرصة لتعزيز قدرات المغرب التفاوضية على المستوى الدولي، وإعادة تقديم نفسه كبلد قادر على تنظيم أحداث عالمية بكفاءة ومهنية.
لكن، وعلى الرغم من هذه الإمكانات الواعدة، فإن التحدي الحقيقي يظل مرتبطًا بكيفية توزيع هذه العوائد بشكل عادل، دون أن يعاد إنتاج التفاوتات المجالية أو تتغول مصالح النخبة الاقتصادية على حساب الفئات الهشة. فالتنمية الحقيقية ليست في قدرة الدولة على بناء ملاعب جديدة، بل في قدرتها على تحقيق العدالة الاجتماعية والشفافية والاندماج الوطني طويل الأمد. وخصوصا مع تزايد الحكومة في الاستثمار في ميادين لا تمثل أساس الاحتياجات الاجتماعية، كما هو ملاحظ في ترك متضرري زلزال الحوز في أوضاع غير إنسانية وانسحاب تدريجي للدولة في تحسين أوضاع الخدمات العمومية التي من المفروض ان تكون من اولويتها الاصلاحية. ولإعطاء صورة أكثر دقة عن حجم الاستثمار والالتزامات المالية للمغرب يشير التقرير الصادر عن المعهد المغربي لتحليل السياسات المعنون بالتداعيات الاقتصادية لاستضافة كأس العام 2030 في المغرب أن التكلفة الإجمالية لتنظيم كأس العالم ستتراوح بين 15 و20 مليار دولار عبر الدول الثلاث المستضيفة بحسب التقديرات الأولية لمسؤولي وزارة المالية والدراسات التي أجرتها المؤسسات المالية المغربية. ومن المتوقع أن تتراوح حصة المغرب من هذه الميزانية بين 5 و6 مليارات دولار، أي ما يعادل 50-60 مليار درهم مغربي. ولتمويل هذا المشروع الوطني الضخم، يخطط المغرب للاعتماد على مصادر متنوعة. سيتم تخصيص حوالي 25 مليار درهم من الميزانية العامة للدولة بين عامي 2024 و2030، مع توجيه هذه الأموال أساسًا لبناء الملاعب، ومراكز التدريب، وغيرها من المنشآت الرياضية.
رغم الفرص التنموية التي يحملها تنظيم كأس العالم، إلا أن التاريخ يُظهر أن هذه البطولات الكبرى كثيرا ما تُصاحبها تحديات اجتماعية عميقة، قد تتحول إلى أزمات إفقار وإقصاء لفئات واسعة من السكان، خصوصا الفئات الهشة والمهمشة. فتجارب كأس العالم السابقة تثبت أن هذه التظاهرات قد تتحول إلى “تنمية مقلوبة”، بمعنى إنفاق ضخم على مشاريع استعراضية لا تعالج أزمات السكن، الصحة، أو التعليم. ففي العديد من البلدان التي استضافت كأس العالم، مثل البرازيل وجنوب إفريقيا، برزت هذه الظاهرة، حيث يتم إنفاق الأموال الطائلة على مشاريع استعراضية وبنى تحتية رياضية لا تخدم الاحتياجات الأساسية للسكان، وفي المقابل يتم إهمال الخدمات الأساسية التي تعد جوهر تقدم أي بلد. وعلى ضوء هذا الطرح، يتزايد الفقر ويتراجع الوصول إلى الخدمات الأساسية من قبيل الصحة والتعليم والسكن اللائق.
مثلا، في البرازيل 2014، شهدت المدن المستضيفة موجات احتجاج شعبية كبيرة ضد الإنفاق الباهظ على الملاعب، التي بلغت ما يناهز 11 بليون دولار، في وقت كانت الخدمات الاجتماعية الحيوية تتدهور. مما كشف عن ازدواجية الحدث: احتفال رياضي عالمي من جهة، ومأساة اجتماعية لملايين السكان من جهة أخرى. وأدى ذلك إلى مواجهات بين المحتجين والسلطات، حيث تم قمع الاحتجاجات بعنف، وأسفرت عن اعتقال أكثر من 251 شخصا، والذين عبروا عن احتجاجهم في إطار حركة “العمال بلا مأوى”، الهدف منها كان رمزيا وليس التخريب أو الإضرار بالملاعب، وإنما الغاية من الاحتجاجات هي القدرة على الوصول للخدمات الأساسية، أبرزها الحق في السكن، وليس تهديد الأمن والاستقرار، بحسب ما جاء في بلاغ رئيس حركة المتظاهرين.
وقد بينت الدراسات على أن التغطية الإعلامية الدولية، خصوصا في الصحافة البريطانية، ركزت على موضوع تأخيرات البنية التحتية وصورة البرازيل كبلد العشوائيات والعنف، بينما تم تهميش أصوات المحتجين ومطالب الحركات الاجتماعية. هذه المقاربة عززت رواية الفيفا على حساب الواقع الاجتماعي، وقدمت الاحتجاجات كمجرد تهديد لأمن البطولة، بدل كونها تعبيرا مشروعا عن رفض الإفقار وغياب العدالة الاجتماعية.
إن استحضار هذه التجربة يثير المخاوف من أن يعيش المغرب بدوره تكرار سيناريو “الاحتفالية الخارجية – تلميع صورة الدولة – على حساب المأساة الداخلية”، إذا لم تُربط المشاريع المونديالية بمردودية اجتماعية عادلة. لذلك، لا يمكن النظر إلى كأس العالم كمجرد حدث رياضي أو فرصة اقتصادية فقط، بل يجب اعتباره مؤشرًا حيويًا على نجاعة السياسات التنموية والاجتماعية للدولة، ومدى التزامها بالعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
إلى جانب التحديات الاقتصادية والاجتماعية، يطل بُعد آخر لا يقل خطورة: البُعد الحقوقي. فتاريخ المونديالات يكشف أن هذه الأحداث غالبا ما تستخدم لتشديد القبضة الأمنية وتوسيع أدوات الضبط السياسي، خصوصا في ظل ما شهدته تظاهرات رياضية دولية سابقة من تضييقات وانتهاكات. في البرازيل 2014، واجه المحتجون القمع والاعتقالات بسبب احتجاجهم على الإنفاق المفرط. وفي روسيا 2018، فرضت قيود مشددة على التظاهر، وحُصرت حرية التعبير في مناطق معزولة عن الملاعب. كما تكشف تجربة البرازيل عن جانب آخر لا يقل خطورة، يتمثل في كيفية تمثيل الاحتجاجات في الإعلام الدولي. فبدل التضامن مع مطالب المواطنين، قدّمت على أساس “عوائق” لإنجاح البطولة، مما شرعن ضمنيًا القمع والاعتقالات.
وهو ما يُلاحظ في الآونة الأخيرة في السياق المغربي لاستعداده لتنظيم كأس العالم 2030، أصبحنا نشهد سياقا متوترا من حيث الحقوق والحريات، ويتجلى ذلك في تراجع حرية الصحافة، واعتقال صحفيين ونشطاء حقوقيين، وتشديد الرقابة على الفضاء الرقمي، وقمع التظاهرات المطالبة بتحسين أداء الخدمات العمومية من الصحة والتعليم. وقد بدأت هذه المطالب تتبلور ضمن إطار حركة رقمية عبر عنها ب”جيل زد 212″، التي أصبحت تدعو الى رفض تنظيم كأس العالم، وتسعى لإدراج موضوعات الخدمات الاجتماعية الأساسية والعدالة الحقوقية ضمن اولويات أجندة صانع القرار.
ختاما، يعد كأس العالم 2030 ليس مجرد حدث رياضي، بل مفترق طرق سيحدد مستقبل المغرب في نظر مواطنيه والعالم. إما أن يُستغل الحدث كفرصة لتكريس نموذج تنموي ديمقراطي يجمع بين الكفاءة والانفتاح والعدالة الاجتماعية، أو يعاد إنتاج نماذج سابقة طبعتها السيطرة وتضييق الحريات وزيادة الفوارق الاجتماعية. فالاختيار بيد الدولة، لكن مسؤولية الرقابة تقع على المجتمع، والإعلام، والنخبة، وكل من يؤمن بأن التنمية الحقيقية لا تتحقق في ظل الخوف أو الصمت المفروض. لنختتم هذا المقال بسؤال: هل يكون مونديال 2030 موعدا مع الحرية والتنمية المستدامة؟ أم مجرد استعراض عالمي يخفي وراءه موسما جديدا من التضييق والإفقار؟