story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
مدن وجهات |

دراسة: آسفي ليست فقط مدينة الفوسفاط بل ذاكرة جيولوجية عمرها 200 مليون سنة

ص ص

في المخيال العام، حين يُذكر اسم آسفي، تتبادر إلى الذهن صورة مدينة محاصرة بين الفوسفاط وميناء الصيد البحري، مدينة ارتبطت لعقود بالصناعات الكيماوية والفرص الضائعة، وأحيانًا بالمآسي البيئية والاجتماعية، بمقاربة الداخلية التي تميل للجانب الأمني.

لكن دراسة علمية حديثة أنجزت من قبل فريق بحث مغربي، على رأسهم عميدة كلية آسفي السابقة، زهور الرامي، والأستاذ الباحث مصطفى الحاميدي، في مجلة International Journal of Geoheritage and Parks تقلب هذه الصورة رأسًا على عقب، لتكشف أن آسفي ليست مجرد مدينة صناعية، بل هي متحف طبيعي مفتوح على المحيط الأطلسي، يحكي قصة الأرض والإنسان على مدى أكثر من مئتي مليون سنة.

غير أن المفارقة الصارخة، التي لا يمكن إغفالها، تكمن في أن هذا الثراء الجيولوجي والمعرفي ظل حبيس رفوف الأبحاث العلمية، وقد يبقى عاجزًا عن أن يتحول إلى مشروع تنموي حقيقي. فكما هُمّشت المدينة اقتصاديًا واجتماعيًا، ها هي تُهمّش مرة أخرى في مجال التراث الطبيعي، وكأن آسفي كُتِب عليها أن تعيش خارج دائرة الاهتمام، رغم أنها تمتلك كل المؤهلات لتكون وجهة عالمية في السياحة الجيولوجية والبحث العلمي.

دراسة تكشف المغمور

الدراسة التي نُشرت في مجلة International Journal of Geoheritage and Parks في يناير 2025، والتي أنجزتها الباحثة زهور الرامي، العميدة السابقة لكلية آسفي، رفقة الأستاذ الباحث مصطفى الحاميدي، لم تكتفِ بالكشف عن معطيات معروفة، بل قدمت تقييمًا علميًا شاملًا لواحد من أغنى الأقاليم المغربية جيولوجيًا، وركزت على تقديم توصيات.

قامت الدراسة التي اطلعت عليها صحيفة “صوت المغرب” بجرد وتقييم أحد عشر موقعًا جيولوجيًا داخل تراب الإقليم، ممتدة بين الساحل والمجال القروي، بين الكهوف والمنحدرات، وبين الأودية والمقالع القديمة، مستعملة منهجية علمية دقيقة ترتكز على خمس مراحل أساسية: الوصف المورفولوجي والجيولوجي، تحديد القيمة العلمية، رصد القيم الإضافية الجمالية والثقافية والبيئية، إمكانية الاستعمال، ثم التقييم السياحي والتربوي مع تحليل المخاطر.

وأظهرت النتائج أن منحدر سيدي بوزيد ومنحدر لالة فاطنة يُعتبران بمثابة أرشيف طبيعي يضم حفريات بحرية نادرة تعود للعصرين الجوراسي والطباشيري، أي إلى أكثر من 150 مليون سنة. هذه الحفريات ليست مجرد أحجار متحجرة، بل هي وثائق طبيعية حيّة تساعد العلماء في فهم كيفية تشكّل المحيط الأطلسي وتطور حوض البحر الأبيض المتوسط.

بحيرة الوليدية.. مرآة للتنوع البيولوجي

وفي قلب الإقليم، برزت بحيرة الوليدية، المصنفة ضمن لائحة “رامسار” للمناطق الرطبة ذات الأهمية العالمية، كأحد أبرز المواقع التي حصلت على أعلى تنقيط علمي وتربوي. فالبحيرة ليست فقط فضاءً سياحيًا ومتنفسًا بيئيًا، بل هي أيضًا مختبر بيولوجي طبيعي يحتضن طيورًا مهاجرة نادرة ونباتات بحرية مميزة، ما يجعلها مركز جذب للباحثين والطلبة، وأرضية خصبة لأنشطة السياحة الإيكولوجية.

في المقابل، تظل مغارة الگوران مثالًا مؤلمًا على الفرص الضائعة. فهذه المغارة الكارستية، بما تحويه من نقوش وصواعد وهوابط كلسية، تمثل إرثًا طبيعيًا وثقافيًا استثنائيًا. لكنها اليوم تعاني الإهمال وضعف البنية التحتية، إذ لا توجد مسالك منظمة للزيارة، ولا وسائل إضاءة أو حماية كافية، ما يحرمها من التحول إلى موقع سياحي رائد على الصعيد الوطني.

بين التراث الطبيعي والتاريخ الإنساني

الدراسة لم تغفل مواقع أخرى مثل شاطئ الصويرة القديمة عند مصب وادي تانسيفت، حيث يتقاطع التراث الطبيعي بالمعماري، فتنتصب الحصون القديمة شاهدة على ذاكرة بحرية وعسكرية غنية.

أما وادي الشعبة وما يحيط به من مقالع فخارية، فقد شكل على مدى قرون مورد عيش لمئات الأسر، جامعًا بين الجيولوجيا والصناعة التقليدية في مزيج فريد لا تجده في كثير من المناطق.

تقييم علمي.. ورسالة للسياسات العمومية

التحليل العلمي بيّن أن غالبية المواقع حصلت على معدل يفوق 6 من 10 في مؤشرات القيمة التربوية والسياحية، ما يؤهلها بقوة لتطوير أنشطة السياحة الجيولوجية. بل إن بحيرة الوليدية، تحديدًا، حصلت على أعلى تنقيط تربوي وصل إلى 7.95/10، وهو ما يعكس استغلالها المسبق في الأنشطة الجامعية والدروس الميدانية.

لكن، بالموازاة مع هذه الأرقام، حذرت الدراسة من مخاطر حقيقية تهدد بقاء هذه المواقع. فالتوسع العمراني العشوائي، واستغلال المقالع، والتلوث البلاستيكي، كلها عوامل تدمر السواحل والبحيرات. كما أن التعرية والانزلاقات الطينية تُشكل خطرًا داهمًا على المغارات والمنحدرات. الأخطر من ذلك أن ضعف التشريعات التطبيقية الخاصة بالجيوتراث يجعل هذه المواقع بلا حماية فعلية، وكأنها تُترك لتواجه مصيرها وحدها.

لم يفت الباحثين أن يشيروا إلى أن استثمار هذا التراث الجيولوجي يمكن أن يكون بمثابة رافعة اقتصادية وتنموية لمدينة طالما عانت من التهميش. فمشروع جيوبارك آسفي، لو تحقق، يمكن أن يوفر فرص عمل جديدة في مجال الإرشاد السياحي، الخدمات البيئية، النقل، الصناعات الثقافية، والتربية البيئية.

كما يمكن أن يجعل من آسفي مختبرًا مفتوحًا للبحث العلمي، ما يعيد ربط الجامعة بمجالها الترابي ويمنح للمدينة صورة جديدة بعيدة عن الفوسفاط والميناء.

الدراسة استحضرت أيضًا التجربة الصينية في مجال الجيوباركات، حيث نجحت بعض المنتزهات الجيولوجية هناك في استقبال أكثر من 400 مليون زائر خلال سنوات قليلة، محققة مداخيل بمليارات الدولارات، ومساهمة في تقليص نسب الفقر وتنشيط الاقتصاد المحلي.

اليوم، لا يتوفر المغرب سوى على جيوبارك واحد مصنف عالميًا من طرف اليونسكو، هو جيوبارك إمغون في الأطلس الكبير. لكن آسفي، بما تملكه من ثروة جيولوجية وثقافية وبحرية، تبدو مؤهلة بقوة لتكون ثاني جيوبارك وطني.

ومع ذلك، يظل الطريق طويلًا بين الطموح والواقع، ما لم تتدخل السلطات المحلية والمركزية لوضع خطة متكاملة لحماية هذه المواقع وتثمينها عبر البنية التحتية، المسارات السياحية، التطبيقات الرقمية، والخرائط التفاعلية.

وخلص الباحثون إلى أن آسفي ليست مجرد مدينة صناعية عالقة في صورة التلوث والتهميش، بل هي ذاكرة جيولوجية وإنسانية قادرة على أن تفتح أمامها آفاقًا عالمية. غير أن ذلك رهين بقدرة السياسات العمومية على الانتقال من مرحلة الدراسات الأكاديمية إلى مرحلة التنفيذ الميداني.

*صلاح الدين خرواعي