“بين الملعب والمستشفى… وهمُ المعادلة الصفرية”

في خضم الجدل الدائر حول الأولويات الوطنية، طُرحت في الآونة الأخيرة معادلات ظاهرها عقلانية وباطنها تبسيطي، مثل الاختيار بين الملعب أو المستشفى. هذه المقارنة ذات الطابع الصفري تبدو غير متماسكة لا على المستوى السياسي ولا على المستوى السوسيولوجي. فالمغرب، باعتباره دولة في طور صعود إقليمي ودولي، لا يمكن أن يقع في فخ التفكير الثنائي، وكأن الاستثمار في البنيات التحتية الرياضية يلغي تلقائياً الحق في خدمات صحية أو تعليمية.
الملعب في عالم 2025 و طبعا بعدها في 2030 ليس جداراً من الإسمنت ولا مدرجات بلاستيكية فقط؛ هو فضاء اجتماعي ورمزي يعكس صورة الدولة عن نفسها أمام مواطنيها أولاً، وأمام العالم ثانياً. ملعب الأمير مولاي عبد الله، الذي تحول إلى موضوع إعجاب وجدال، هو مثال حي على هذه الازدواجية: من جهة يبعث على الفخر كمنجز هندسي وتنظيمي، ومن جهة أخرى يثير أسئلة حول أولويات الإنفاق العام، وحول الفوارق الاجتماعية التي تجعل بعض الفئات ترى في مثل هذه المشاريع دليلاً على غياب العدالة التنموية و المجالية.
غير أن الإشكال الحقيقي لا يتوقف عند حدود “أي ملعب نريد أن نقدّم؟”، و لا ما الرابط بين انجاز ملعب بمعايير دولية و ضعف الخدمات الصحية او قضايا المغرب العميق ( الحوز ، ايت بوكماز ) ، الاشكال يتجاوز ذلك إلى سؤال أعمق بكثير: “أي مواطن نريد أن يظهر أمام العالم في مغرب 2030؟” في مغرب الواجهة و القرى معا. هنا يصبح النقاش حول البنيات التحتية الرياضية مجرد جزء من معادلة أكبر تتعلق بالنموذج التنموي برمته. الملك نفسه رفض في خطاباته منطق “السرعتين”، لأن تقسيم المجتمع بين مواطنين من الدرجة الأولى وآخرين من الدرجة الثانية يناقض جوهر المشروع الوطني. كذلك، فإن نفي حق فئات اجتماعية معينة في تشجيع المنتخب الوطني أو في الانخراط في الحلم الجماعي، هو تعبير عن خلل في فهم المواطنة لا عن ضعف في الإمكانيات المادية.
إن بناء الإنسان قبل الحجر ليس شعاراً بل قاعدة تنموية. فالملاعب يمكن أن تُشيّد في آجال قصيرة، أما الإنسان المواطن فبناء وعيه وتثبيت انخراطه يتطلب زمناً طويلاً واستثماراً مستمراً. من هنا فإن القيمة الحقيقية لتنظيم كأس العالم لا تكمن في صور الملاعب المبهرة أو في حجم العائدات الاقتصادية فقط، بل في الإرث المدني والاجتماعي الذي يمكن أن يخلفه هذا الحدث في سلوك الأفراد، في مستوى مشاركتهم، وفي قدرتهم على رؤية أنفسهم جزءاً من مشروع جماعي مستدام.
الاقتصاد مهم بلا شك، لكن الاقتصاد وحده لا يصنع مجتمعاً. المؤشرات الرقمية قد تبرر القرارات في التقارير الرسمية، لكنها لا تخلق الثقة ولا تحفز الانتماء. إن ما سيبقى بعد المونديال ليس فقط البنيات التحتية، بل صورة المواطن المغربي وهو يعيش تجربة الانفتاح والتفاعل مع العالم، وكيف سيتجذر لديه شعور بأنه ليس مجرد “متفرج” بل فاعل في صناعة صورة بلده.
بهذا المعنى، لا يمكن الدفاع عن أي معادلة صفرية تحصر النقاش في ثنائية الملعب/المستشفى أو الحجر/البشر. المنطق السليم هو الذي يرى في هذه المجالات مسارات متقاطعة ضمن مشروع وطني واحد: ملعب يفتح أبواب الانتماء والاعتزاز، ومستشفى يصون الحق في الحياة والكرامة، ومدرسة تهيئ مواطناً متعلماً وواعياً. جميعها حلقات في سلسلة واحدة، إذا انكسرت إحداها تعطّل المشروع بأكمله.
لكن البعد الداخلي ليس وحده في المحك. فالمونديال هو أيضاً رهان دولي، واختبار لقوة المغرب الناعمة. إن تنظيم حدث بهذا الحجم يمنح للمملكة منصة دبلوماسية غير مسبوقة، حيث تلتقي السياسة بالرياضة والثقافة بالاقتصاد. وإذا كان الاستثمار في البنيات التحتية يهدف إلى إبهار العالم، فإن الاستثمار في الإنسان يهدف إلى إقناع هذا العالم بأن المغرب ليس مجرد فضاء ضيافة، بل فاعل حضاري قادر على تقديم نموذج متوازن بين الأصالة والحداثة.
المونديال، إذاً، فرصة استراتيجية لتثبيت صورة المغرب كدولة استقرار في محيط إقليمي مضطرب، وكجسر حضاري بين إفريقيا وأوروبا .
إنها مناسبة لاختبار قدرتنا على تحويل لحظة رياضية إلى لحظة سياسية ودبلوماسية، تعزز حضور المغرب في دوائر القرار العالمي، وتفتح آفاقاً جديدة للتعاون الدولي في مجالات التنمية المستدامة والثقافة والابتكار.
إن الرهان الكبير لمونديال 2030 يتجاوز بكثير قضية التنظيم التقني أو الانبهار الإعلامي. هو رهان على أي مغرب سنقدّم أمام العالم: مغرب يفاخر بإنجازاته العمرانية فقط، أم مغرب يقدّم إنسانه أولاً باعتباره الثروة الحقيقية؟ الجواب عن هذا السؤال هو الذي سيحدد ما إذا كان المونديال مجرد حدث عابر، أم محطة تأسيسية لمسار جديد في بناء دولة المواطنة والتنمية المستدامة، وترسيخ المغرب كفاعل وازن في المجتمع الدولي.