محامٍ: الإفراط في الاعتقال الاحتياطي يُسقط النيابة العامة في شطط استعمال السلطة – حوار

في الآونة الأخيرة، أثارت بعض القرارات القضائية المتعلقة بمتابعة أشخاص في حالة اعتقال جدلًا واسعًا لدى الرأي العام، خاصة حينما يتعلق الأمر بوقائع يتبين لاحقًا أنها لم تكن تستوجب في الأصل الحرمان من الحرية، أو قضايا تتوفر لدى المتابعين على خلفيتها جميع ضمانات الحضور، ولا يشكلون خطرا على الأمن العام.
وارتفع عدد الحالات التي يُعتقل فيها أشخاص بناء على قضايا لم يصدر بشأنه حكم حائز لقوة الشيء المقضي به، وتكررت بشكل كبير في السنوات الأخيرة، خاصة بعد استقلال النيابة العامة عن وزارة العدل، بحيث يقضي المعتقلون ساعات تحت الحراسة النظرية قبل أن يُقرر وكيل الملك حفظ الملف.
غير أن الإفراج عنهم لا يضع حدًا لمعاناتهم، إذ من الممكن أن يتعرضوا قبل ذلك لما يشبه الاغتيال المعنوي عبر حملات تشهير واسعة على بعض المنصات الإعلامية، في خرق واضح لسرية البحث التمهيدي ولقرينة البراءة كمبدأ دستوري أساسي.
كل هذه الوقائع تطرح أسئلة جوهرية حول حدود سلطة النيابة العامة، وضمانات المحاكمة العادلة، ومسؤولية تسريب المعطيات الشخصية، إضافة إلى دور الإعلام في احترام سرية التحقيق، وهي الأسئلة التي نقلتها صحيفة “صوت المغرب” إلى المحامي ورئيس الفضاء المغربي لحقوق الإنسان، محمد النويني، الذي أكد أن الاعتقال الاحتياطي يجب أن يبقى استثناءً لا قاعدة، وأن حماية الحياة الخاصة وقرينة البراءة مسؤولية مشتركة بين المؤسسات القضائية والإعلامية والتشريعية.
وفي ما يلي نص الحوار:
- لماذا أصبحت النيابة العامة، خاصة بعد استقلالها عن وزارة العدل، تلجأ إلى متابعة الأشخاص في حالة اعتقال، كأول إجراء من بين إجراءات أخرى، خاصة في قضايا لا تشكل خطرا على الناس ولا مساسا بالنظام العام؟
ج: للأسف لم يعد الاعتقال يُلجأ إليه من قبل النيابة العامة كإجراء احتياطي وفي حالات قيدها المشرع بالعديد من القيود والشروط، بل أصبح الاعتقال هو الأصل، ومما يؤشر على ذلك، الارتفاع المهول لعدد المعتقلين الاحتياطيين بالسجون المغربية، حيث يتجاوز عددهم 40 % من إجمالي الساكنة السجنية، التي تقدر بأزيد من 100 ألف سجين، ما يعكس خللا في النظام القضائي، خاصة فيما يرتبط بجهة “الاتهام” مما يؤدي إلى اكتظاظ غير مبرر داخل المؤسسات السجنية.
ينبغي الإشارة في هذا الاتجاه إلى كون النيابة العامة تقرر في غالب الأحوال الاعتقال الاحتياطي على الرغم من عدم وجود المبررات القانونية لذلك، والتي تتمثل في حالة التلبس، وخطورة الفعل الجرمي، وانعدام ضمانات الحضور، وتوفر دلائل على ارتكاب المشتبه به للجريمة، ومدى تأثير هذه الأخيرة على حقوق الغير أو على النظام العام والأمن العام.
- هل يعكس هذا “التسرع” في الاعتقال خللاً في مسطرة البحث التمهيدي، أم أنه يدخل في إطار صلاحيات النيابة العامة؟
ج: لا نختلف حول الصلاحيات المنوطة بالنيابة العامة في تحريك الدعوى العمومية والإشراف على البحث التمهيدي، وتسطير المتابعات وفق سلطتها التقديرية في حالة اعتقال أو سراح، بالنظر إلى كون المشرع منحها هذا الاختصاص الأصيل.
لكن بموازاة ذلك، النيابة العامة ملزمة بالتطبيق السليم للقانون، وبعدم الإفراط في استعمال هاته المُكنة القانونية بدون موجب حق، مما قد يسقطها في الشطط في استعمال السلطة أو في ما يسمى بالاعتقال التحكمي والتعسفي، الذي أفرد له المشرع ردعا خاصا لمن ارتكبه، والذي يصل إلى التجريد من الحقوق الوطنية، وكذا إيقاع عقوبات زجرية رادعة حسب مقتضيات الفصل 225 من القانون الجنائي المغربي وما يليه.
وفي هذا الاتجاه نحن في هيئة الدفاع في غالب الأحايين نعيب على النيابة العامة بإحالة بعض المساطر في حالة اعتقال دون استنفاذ كل التحريات والأبحاث حولها في مخالفة صريحة لمقتضيات المادة 18 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على أنه “يعهد إلى الشرطة القضائية تبعا للبيانات المقررة في هذا القسم بالتثبت من وقوع الجرائم وجمع الأدلة عنها والبحث عن مرتكبيها”.
- إلى أي مدى يمكن اعتبار مثل هذا القرار مساسًا بقرينة البراءة كمبدأ دستوري أساسي؟
ج: إن مبدأ البراءة هو الأصل، والاعتقال الاحتياطي يمس بالحرية الفردية ويتعارض مع مبدأ البراءة، كما أن الإفراج عن المتهم مجرد إجراء مؤقت، حسب ما أكدته المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على أن ” كل مشتبه فيه بارتكاب جريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بمقرر مكتسب لقوة الشيء المقضي به، بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية، ويفسر الشك لفائدة المتهم.”
وإن الاعتقال الاحتياطي حسب المادة 159 من قانون المسطرة الجنائية ما هو إلا “تدبير استثنائي وليس تدبيرا أصليا بل الأصل هو البراءة”.
وهذا ما أكده الفصل 23 من الدستور المغربي بقوله: “لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته، إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون، الاعتقال التعسفي أو السري والاختفاء القسري، من أخطر الجرائم، وتعرض مقترفيها لأقسى العقوبات”.
وحسب الفقرة الثالثة من ذات الفصل “إن قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان”.
- ما هي المسؤولية القانونية عن تسريب المعطيات الشخصية للمتابعين في بعض القضايا؟ ومن يتحملها؟
ج: لقد أعطى المشرع للمعطيات الشخصية قدسية وحماية خاصة في جل القوانين الوطنية وكذا الدستور المغربي الذي نص في فصله 24 على أنه: “لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة”.
وارتباطا بمبدأ سرية التحقيق المنصوص عليها في المادة 15 من قانون المسطرة الجنائية، فإن كل شخص يساهم في إجراء عملية البحث والتحقيق من قضاة التحقيق ونواب ومحامون وكتاب ضبط وضباط الشرطة القضائية ملزمون بكتمان السر المهني ضمن الشروط وتحت طائلة العقوبات المقررة في القانون الجنائي.
كما أن إفشاء معطيات ووثائق وقع الحصول عليها من تفتيش أو بحث إلى شخص ليست له صلاحية قانونية للاطلاع عليها، ودون موافقة المشتبه فيه أو ذوي حقوقه ، ولو كان ذلك لفائدة البحث يُعاقب عليه بعقوبة سالبة للحرية حسب مقتضيات المادة 61 من قانون المسطرة الجنائية.
وبخصوص المحامي فهو مُطوق أيضا بكتمان السر المهني المنصوص عليه في المادة 36 من القانون المنظم لمهنة المحاماة “قانون رقم 28.08” الذي يمنع عليه أن يفشي أي شيء يمس بالسر المهني في أي قضية، ويتعين عليه حسب ذات المادة في فقرتها الثانية، أن يحترم سرية التحقيق في القضايا الزجرية، وأن لا يبلغ أي معلومات مستخرجة من الملفات، أو ينشر أي مستندات أو وثائق أو مراسلات لها علاقة ببحث ما زال جاريا.
- هل يمكن مساءلة وسائل الإعلام أو المنصات التي شاركت في التشهير قانونيًا؟ وما هي المقتضيات التي يمكن الاستناد عليها؟
ج: التشهير هو سلاح إعلامي قذر يسلط على المعارضين والصحافيين والنشطاء للنبش في خصوصياتهم وتأليب الرأي العام عليهم عبر شيطنتهم وشن حملات تشهيرية في حقهم تسيئ لسمعتهم وتنال من كرامتهم وآدميتهم، بل يمس هذا التشهير ويمتد حتى لأسرهم ولمحيطهم الاجتماعي والمهني وتكون له تأثيرات نفسية واجتماعية واقتصادية رهيبة.
في هذه الحالة نجد السلطات القضائية والأمنية تتلكأ عن تحريك الدعوى العمومية وتغمض أعينها وتترك الضحية وحيدا تفترسه صحف ومواقع التشهير في مخالفة صريحة ورهيبة لمقتضيات المادة 75 من قانون الصحافة والنشر التي تمنع انتهاك سرية التحقيق والمس بقرينة البراءة أثناء مباشرة المساطر القضائية، قبل مناقشتها في جلسة عمومية.
فضلا عن الانتهاك الصارخ لمقتضيات الفصل 446 من القانون الجنائي الذي يفرض سرية التحقيق والبحث التمهيدي تحت طائلة العقاب من أخل بمبدأ السرية خلال هاته المرحلة، علما أن جل هاته الجرائد المشهرة بالموقوفين من النشطاء تخبر الرأي العام بقرب واقعة الاعتقال وأسبابه وحتى صك المتابعة والكل بناء على مصادر أمنية.
وإذا كان المتابع بالتشهير ناشطا حقوقيا أو معارضا سياسيا، تجد السلطات الأمنية والقضائية تتحرك بسرعة فائقة وخاطفة لتحريك الدعوى العمومية وتسطير المتابعات في حالة اعتقال، رغم انعدام حالة التلبس، وعدم خطورة الأفعال وتوافر كافة ضمانات الحضور الشخصية والمالية، وعلى الرغم من أن الموقوف لا يخشى منه، ولا يخشى عليه، ولا يشكل خطرا على النظام العام حسب مقتضيات المواد 47 و 73 و 74 من قانون المسطرة الجنائية، وكذا إيقاع العقاب القاسي في حقهم على مستوى العقوبة السالبة للحرية والغرامات والتعويضات.
- برأيكم، هل يكشف هذا الملف عن ثغرات في القانون الجنائي المغربي بخصوص حماية الحياة الخاصة والبيانات الشخصية؟
ج: لا أعتقد أن المشكل ينحصر في وجود ثغرات في المنظومة التشريعية للقانون الجنائي، ولكن هي أزمة إرادة سياسية حقيقية لتطبيق تلك القوانين المؤطرة للظاهرة على أرض الواقع، ووجود ازدواجية المعايير في التعامل مع المتابع من أجل التشهير، هل يغرد داخل السرب أم خارجه.
- ما هي أهم الإصلاحات القانونية والمؤسساتية المطلوبة لمنع تكرار مثل هذه الانتهاكات؟
ج: ينبغي إصلاح الإرادات أولا، وتخليق المؤسسات وايقاع الجزاءات على المخالفين، وعدم الإفلات من العقاب وإعطاء ضمانات بعدم تكرار هاته الانتهاكات، من خلال حماية الحياة الخاصة للأشخاص في ظل وطن يسع جميع أبنائه، يمتثلون أمام القانون في إطار المساواة بين الأفراد والمؤسسات العمومية.