مصباح: إدارة الحقل الديني بطريقة بيروقراطية تشكل خطرا سياسيا متوسط المدى

س: كيف تقرأ، من زاوية العلاقة بين الدين والسياسة، التردد الذي يطبع معالجة ملفات حساسة مثل إصلاح مدونة الأسرة وقبلها الخلاف حول تقنين الإجهاض؟ هل يعكس ذلك محدودية قدرة الدولة على التوفيق بين المرجعية الدينية ومقتضيات التحول الديمقراطي؟
ج: في نظري، يبدو أن التردد الذي يطبع تدبير الدولة لملفات حساسة مثل تعديل مدونة الأسرة وقضية الإجهاض يرتبط أساسا بالسقف الضيق الذي تفرضه المرجعية الدينية الرسمية. فالخطاب الرسمي للمؤسسة الملكية يشدد دائما على مقاربة الوسطية والمنهج الاجتهادي، ضمن حدود تستمد شرعيتها من الدستور و”مقاصد الشريعة”، دون تجاوز الخطوط الحمراء.
من هنا مثلا فقد أشار الملك محمد السادس – بوصفه أميرا للمؤمنين – على أنه «لن يحل حراما»، وذلك عند إحالة مقترحات مراجعة مدونة الأسرة على المجلس العلمي الأعلى السنة الماضية، وهو نفس التوجه الذي تبناه في إصلاح المدونة سنة 204. كما يظهر أيضا في قرار المجلس العلمي الأعلى عدم تعديل قانون الإجهاض، “إلا بقدر ما تستدعيه المصلحة ويسمح به الاجتهاد” والذي يشير أيضا إلى أن أي تعديل في القوانين سيراعى فيه “المصلحة الشرعية” ضمن حدود الاجتهاد الديني التقليدي.
من جهة أخرى، تسعى الدولة دائما إلى الحفاظ على التوازن بين التيار الإسلامي والتيار الحداثي، ولهذا يظهر بعض التناقض في تدبير الدولة لهذه الملفات الحساسة. فإصلاح المدونة على سبيل المثال ليس تعديلا تقنيا، ولكنه مرتبط بتوازنات سياسية تسعى الدولة من خلاله إلى الحفاظ على إجماع نسبي وضمان التوازن السياسي بين المحافظين والحداثيين. فالدولة تنحو نحو اعتماد إصلاح ظاهري، مثل إدخال تعديلات جديدة على مدونة الأسرة، وفي الوقت نفسه تلجم نفسها عندما يتعلق الأمر بخطوط حمراء.
باختصار، في هذا النوع من الملفات الحساسة، فإن الدولة تغلب خطاب “الثوابت الدينية” مع نوع من الانفتاح المقيد، ضمن ما يمكن تسميته بنموذج المساومة الدينية-الإصلاحية.
س: اعتقال ناشطة مثل ابتسام لشكر يعيد النقاش حول حدود الحريات الفردية. برأيكم، هل الدولة اليوم بصدد إعادة إنتاج شرعيتها عبر التشديد على الثوابت الدينية، أم أن الأمر يدخل في إطار استجابة ظرفية لضغوط اجتماعية وسياسية؟
ج: فعلا، يبدو أن اعتقال الناشطة ابتسام لشكر قد أثار مجددا ملف الحريات الفردية وأرجعه إلى الواجهة مرة أخرى. صراحة، من الصعب الحسم بالقول إذا كان هذا القرار مرتبط برغبة الدولة في تجديد شرعيتها من خلال مناصرة قيم دينية تقليدية أم فقط تستجيب لضغط اجتماعي وسياسي ظرفي. فمن جهة، معاقبة ناشطات ينتهكن – من وجهة نظر المجتمع المحافظ – “ثوابت دينية”، هي وسيلة لإعادة إنتاج شرعية الدولة من خلال تصويرها باعتبارها حامية “للملة والدين”، ويبعث رسائل سياسية مفادها أن الخطوط الحمراء الدينية غير قابلة للتجاوز، بما يعزز رابط الدولة مع التيارات المحافظة.
ومن ناحية أخرى، لا يمكن إغفال أن الدولة تصرفت هذه المرة أمام ضغط شعبي. فبعد تدوينة وزير العدل السابق، مصطفى الرميد، على الفيسبوك بالإضافة إلى التفاعلات على مواقع التواصل الاجتماعي، عبر تهديدات وشتائم أمام منشورات لشكر، سارعت السلطات إلى اعتقالها بهدف احتواء ردود الفعل. في نهاية المطاف، فإن هذه الإجراءات تبدو فقط “استجابة ظرفية” لمزاج الشارع ومطالبه، وليس توجها جديدا للدولة نحو فرض نوع من التزمت الديني.
س: تكشف مواضيع مثل مراجعة مدونة الأسرة، وأزمة الزاوية البوتشيشية، وقضية لشكر، فجوة بين المجتمع والدولة في تدبير قضايا حساسة لها علاقة بالمجال الديني. من خلال أبحاث معهدكم، إلى أي حد يمكن القول إن هذا النوع من القضايا يساهم في تآكل الثقة في المؤسسات، وما هي المخاطر السياسية على المدى المتوسط؟
ج: ينبغي التنبيه إلى أن المجال الديني في المغرب يتمتع بخصوصية واضحة. فالمؤسسة الملكية ووزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية تمكنت من فرض سيطرة شبه كاملة على المؤسسات الدينية في السنوات الأخيرة، ونجحت في استيعاب وتأطير الجماعات الدينية ضمن هذا الإطار. هذا يعني أن أية مقاومة أو اختلاف في وجهات النظر يظل ضمن مستويات مراقبة ومحددة مسبقا.
الحقيقة أن السيطرة على الحقل الديني ساعدت الدولة على إدارة التوترات الدينية، لكنها في الوقت نفسه خلقت نوعا من برقرطة الإسلام bureaucratization وتدجين الفاعلين الدينيين واحتوائهم في الهياكل الإدارية.
هذه العملية البيرقراطية أضعفت “الاجتهاد الديني” ومن ثمة قدرة محدودة للمؤسسات الدينية على التكيف مع التحديات الجديدة. وضمن هذا السياق، تحولت الزوايا والمؤسسات الدينية إلى إدارة بيروقراطية وأقل مرونة روحية، وأصبح جزء كبير منها امتدادا للسلطة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تآكل الحماس الشعبي تجاه المرجعية الدينية الرسمية.
ولكن بالرغم من نجاح الدولة في السيطرة على المجال الديني، فإن بعض القضايا الحساسة مثل مدونة الأسرة، وقضية ابتسام لشكر وتوحيد خطب الجمعة، تكشف توترا بين المجتمع والدولة.
صحيح أن الثقة في المؤسسات الدينية الرسمية لا زالت عالية وفق نتائج تقرير الثقة في المؤسسات الذي يصدره المعهد المغربي لتحليل السياسات، إلا أن التحكم الكامل في المجال الديني يولد نوعا من الجمود المؤسساتي، مما قد يؤدي إلى انخفاض التفاعل الشعبي الإيجابي مع المؤسسات الرسمية. فعلى سبيل المثال، انتقد عدد من المواطنين مثلا قرار وزارة الأوقاف توحيد خطب الجمعة، وأيضا توقيف رئيس المجلس العلمي لفكيك بعد تدوينته المتعلقة بغزة.
ومن هنا فإن إدارة الحقل الديني بطريقة بيروقراطية تقلل من قدرة الدولة على الاستجابة لمطالب المجتمع المتجددة، وهو ما يشكل خطرا سياسيا متوسط المدى إذا لم يتم تحرير المجال الديني بما يسمح بنوع من التعددية والحرية للفاعلين الدينيين.
*هذا الحوار، هو جزء من ملف العدد 76 لمجلة “لسان المغرب”، لقراءة الملف كاملا، يرجى الضغط على الرابط