“الدين لله والوطن للجميع” مقولة مكرم عبيد باشا التي لا تناسب واقعنا.. نقاش مع يونس مسكين

اتصل بي عدد من الأصدقاء يطلبون رأيي فيما كتبه الصحافي المحترم الصديق يونس مسكين حول المتابعة القضائية لإحدى المدونات على خلفية نشرها لصورة مستفزة وهي ترتدي قميصًا يتضمن محتوى مسيئًا للذات الإلهية، ولأني أعرف جدية الشخص ومصداقيته في الانتصار لقيمة الحرية، فيمكن أن ألخص الفكرة الأساسية لمقالته في الفكرة التالية: “إن من حق الدول تقييد ممارسة حرية الرأي والتعبير ولكن ليس لدرجة سلب الحرية والسجن، وهو الرأي الذي يطرحه الكاتب جوابا عن سؤال جدوى التجريم والعقاب في مثل هذه النوازل، مع الخوف من فتح الباب أمام قمع الحريات وتوظيف مثل هذه المتابعات القضائية لاستهداف حرية الرأي والتعبير”.
ما فهمته من المقال أنه يتفق على مبدأ كون حرية التعبير ليست حقا مطلقا ومن حق الدولة تقييدها، لكن المشكلة في طريقة تطبيق المبدأ، أو بلغة أخرى، المشكلة في السياسة الجنائية المتبعة، أي إنه في الجوهر مع تدخل القانون ولكن ليس إلى درجة اللجوء إلى الاعتقال.
وإذا كنت أتفق مبدئيا مع الكاتب في ضرورة الإعلاء من قيمة حرية التعبير، وضرورة مناقشة مختلف الأفكار التي تعبر عن نفسها ولو كانت مختلفة عن الاتجاه العام في المجتمع، بالفكرة والدليل والحجة بعيدا عن منطق القمع والمصادرة وتقييد الحرية، كما أعتبر شخصيا قيمة الحرية من أعظم مكتسبات الإنسان في مواجهة التسلط والاستبداد، فهي ليست مجرد حق فردي، بل هي شرط وجودي وأخلاقي للكرامة الإنسانية، بحيث لا يمكن الحديث عن إبداع أو تقدم معرفي في غياب فضاء آمن، ولاسيما حرية التعبير، باعتبارها الوسيلة التي يمتلكها الفرد في مواجهة التسلط والسلطوية، فضلا عن كونها الشرط الضروري للإبداع والتطوير والتجديد في كل المجالات، ورحم الله عمر بن الخطاب حين قال “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا” وهي العبارة التي لازمت الكثير من الإعلانات والمواثيق الحقوقية. ولكن الحجج التي ساقها الكاتب وهو يحاول الدفاع عن أطروحته، تحتاج إلى مناقشة لأنها بنيت في رأيي على مقدمات غير مسلم بها، وبيان ذلك على الشكل التالي:
- أولا، في مقولة ” الدين لله والوطن للجميع”..
هذه المقولة مرتبطة بسياق سياسي وتاريخي لا علاقة له بالسياق المغربي، وهي قولة للسياسي المصري مكرم عبيد باشا الذي يعد أحد رموز الحركة الوطنية في مصر، ومن أبرز رموز حزب الوفد بعد تأسيسه عام 1918، وهو من المسيحيين الأقباط الذين كانت لهم أدوار مهمة في بناء التعايش بين المسلمين والأقباط على مشتركات وطنية مسؤولية حكومية مرموقة، واشتهر بهذه المقولة وبمقولات أخرى من قبيل: “يحيا الهلال مع الصليب”، و”لا فرق بين مسلم وآخر مسيحي فكلنا في واحد”، و”سر عظمة مصر وقوتها من خلال وحدتها وتماسك أمتها” وغيرها من الأقوال التي تعالج مسألة التعددية الدينية في إطارها الوطني الجامع، علما أن مكرم عبيد باشا اشتهر بعلاقته الخاصة بالإخوان المسلمين آنذاك وبحسن البنا تحديدا، ويقال أنه القبطي الوحيد الذي ذهب في جنازة حسن البنا رحمه الله.
اليوم هناك بعض اللادينيين الذين يحاولون توظيف هذه المقولة ضد من يؤمنون بالدين كمرجعية لهم في حياتهم الخاصة والعامة، من أجل تحييد هذه المرجعية في مناقشة القضايا العامة، علما أن “فكرة الدين لله” فكرة صحيحة في حد ذاتها، وأول من يتشبت بها هم جمهور المتدينين أنفسهم لأنها مقتبسة من القرآن الكريم أصلا، وتحمل دلالات عملية في السياق القرآني، قال تعالى: “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله” (البقرة: 193). وقال أيضا: “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله” (الأنفال: 39)، أي أن الله أمر بالقتال حتى يقرّ هذه الحقيقة في الواقع: أن يكون الدين لله. وقال أيضا: “ألا لله الدين الخالص” (الزمر: 3).
فالغرض من هذه الآيات هو حث المسلمين أن يعملوا على تخليص الدين من المتلاعبين به ليكون خالصا لله وحده، وليس الغرض منها ترك الدين أو تحييده، وفي هذا كلام طويل لأهل التفسير وعلمائه. كما أن مقولة “الوطن للجميع” مقولة صحيحة في حد ذاتها، لأنها تعني أن الجميع شركاء في بناء الوطن وفي خدمته، ولا يجوز إقصاء أحد من الانتماء إلى الوطن والاستفادة من خيراته. ولا يمكن تحويل هذه المقولة التي جاءت في السياق الذي ذكرناه كمستند “إيديولوجي” للتحلل من الثوابت وتحييد الدين من النقاش العام .
- ثانيا، القول بأن هذه الواقعة تتعلّق بالممارسة القانونية والقضائية، ولا علاقة لها بالدين..
نعم، إذا كان الكاتب يناقش مآل القضية بعد تدخل السلطات القضائية، ويطالب بتجنب الاعتقال بالنسبة لمرتكبة فعل الإساءة فهذا من حقه، ولكن لا ينبغي أن ينسى أن سبب النقاش المجتمعي هو تعرض الذات الإلهية للإساءة بواسطة منشور مستفز على صفحات التواصل الاجتماعي، وهذا يثير العاطفة الدينية للناس، ومن حقهم أن يطالبوا بتدخل القانون بواسطة المؤسسات المكلفة بإنفاذه، وهذا من صميم المواطنة الحقة، لأن الدين في المجتمعات الإسلامية ليس فقط خيارًا فرديًا أو تقليدًا ثقافيًا، بل هو جوهر الهوية الجماعية وأساس الشرعية السياسية للأنظمة، لذلك كانت القوانين أكثر صرامة فيما يتعلق بازدراء الأديان أو المساس بالذات الإلهية والأنبياء.
وإذا كانت النيابة العامة قد استندت على القانون من أجل تحريك المتابعة وقررت الاعتقال، فلا ينبغي أن يقع اللوم على المواطنين الذين طالبوا بتطبيق القانون كما يطالب بتطبيقه الجميع في قضايا الرشوة والفساد واستغلال النفوذ، أما التوتر الحاصل بين القانون والحرية فذلك نقاش آخر (انظر مقالتي حرية التعبير بين الفلسفة والدين وحقوق الإنسان: تأملات في التوتر الدائم بين الحرية والقانون)
- ثالثا، الانطلاق من القول بأن “الله غني عنا جميعا ولا يحتاج خالق السماوات والأرض إلى جند من البشر ليحموه أو يدافعوا عنه”
وذلك ك”حجة كلامية” للرد على من عبروا على استيائهم من الصورة المسيئة للذات الإلهية وطالبوا بتطبيق القانون.
إن المسكوت عنه في هذه القولة التي رددها البعض بصيغ أخرى (وليس المقصود هنا الصديق يونس)، هو: “من حقنا أن نمارس حريتنا في تسفيه معتقداتكم الدينية، وليس من حقكم المطالبة بتدخل القانون لضمان احترام هذه المعتقدات”، فيجوزون لأنفسهم الحق في قول ما يشاؤون باسم حرية التعبير ويصادرون حق الآخرين بهذه الحجة العجيبة.
نعم إن الله غني عن العالمين ولا يحتاج لمن يدافع عنه، ولكن المؤمن يدافع عن نفسه هو بالدفاع عن معتقداته وثوابته، وإذا لم تدافع الأمة عن ثوابتها ومقدساتها، فما معنى الثوابت والمقدسات إذن.
إن مسايرة هذه “الحجة الكلامية” سينتهي بنا إلى تمييع مفهوم الثوابت والمقدسات، وإفقاد المعنى لكل شيء..
- رابعا، استدعاء الفتاوي الرسمية حول حكم المرتد، كدليل على خطورة تدخل النقاش الشرعي في الموضوع، والتساؤل عن وجود اجتهاد فقهي آخر.
الحقيقة أن النقاش الفقهي حول مسألة المرتد لا تحكمه فقط الفتوى المعبر عنها من طرف الهيئة العليا للإفتاء، التابعة للمجلس العلمي الأعلى، التي تقول إن حكم المرتدّ في الإسلام لا يخرج عن القتل، ولكن هناك اجتهادات أخرى تميز في قضية المرتد بين نوعين:
المرتد الذي يقتصر ارتداده على نفسه من دون أن يمس المجتمع والدولة في شيء، هذا ليس في القرآن ما ينص على قتله وإنما يتوعده بالعقاب الشديد في الآخرة “ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون”(البقرة 218)، فعقوبة المرتد تكون بعد موته في الآخرة بالخلود في النار وليس القتل في الدنيا، وأكثر من ذلك فباب التوبة مفتوح أمامه مادام حيا. أما المرتد الذي يتجاوز الخروج عن الإسلام إلى محاربته والتحالف مع خصومه فحكمه حكم آخر، لأنه في هذه الحالة بمثابة ما نعبر عنه اليوم ب”الخيانة العظمى”، للوطن والمجتمع والخروج على الدولة. (مثال محاربة أبو بكر للمرتدين لأن خروجهم عن الإسلام اقترن برفض أداء الواجبات المالية للدولة، فهنا حكم المرتد هو حكم المحارب). إذن فالوضع القانوني ل” المرتد لا يتحدد في الإسلام بمرجعية “حرية الاعتقاد” بل بمرجعية “الخيانة للأمة”، أما تغيير المعتقد دون الخروج على الدولة وقوانينها فهذا عقابه في الآخرة وليس في الدنيا.
- خامسا، فيما يتعلق بالإحالة على المواثيق الدولية لحقوق الإنسان في مقابل المرجعية الدينية وكأن المواثيق الدولية لحقوق الإنسان تمنحنا شيكا على بياض لفعل وقول كل شيء، أو على الأقل، هذا ما يفهمه البعض.
الحقيقة أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، يكفلان حق الإنسان في الحرية والمساواة واعتناق الآراء والتعبير عنها. لكن هذه الحرية، وإن بدت مطلقة في النصوص، فإن ممارستها تخضع لمجموعة من الضوابط، فالمادة 19 من العهد الدولي توضح وجوب ممارسة حرية التعبير بما لا يعتدي على حقوق الآخرين أو سمعتهم، وبما لا يهدد الأمن العام أو النظام العام أو الآداب العامة، معتبرة حرية نقل الأفكار والآراء حقًا ثمينًا جدًا، يجب أن يستخدم دون إساءة حسب الحالات التي يحددها القانون.
إذن الحرية مرتبطة بالمجال الذي يحدده القانون، وبهذا المعنى، نحن أحرار في فعل كل ما لا يمنعه القانون، ورفض القيام بأي فعل يمنعه. هنا يظهر التوتر الأساسي: كيف نوازن بين الحق في التعبير والحق في الاحترام؟ وهل يمكن أن تتحول حرية التعبير إلى أداة للإقصاء أو الاستفزاز باسم الحرية نفسها؟ وتزداد هذه الأسئلة حدة حين يتعلق الأمر بتعبيرات مسيئة للدين، لما له من رمزية روحية ووجدانية لملايين البشر.
هنا، وبغض النظر عن التحولات القيمية التي عاشها الغرب والتي أثرت في تعامله مع المرجعية الحقوقية نفسها وإخضاعها للغرائز وللتحيزات القيمية (وهذا موضوع معقد يحتاج لبحث منفصل)، فإن الفكر الليبرالي المتطرف يعتبر أن نقد الدين هو جزء مشروع من النقاش العام، لكن مع ذلك، فإن العديد من المحاكم الأوروبية تميل إلى حماية الرموز الدينية من الإهانة.
ففي قضية Otto-Preminger-Institut ضد النمسا (1994)، قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بأن عرض فيلم يتناول رمزية دينية بطريقة مسيئة لا يندرج ضمن حرية التعبير المطلقة، وأكدت في قضية Wingrove ضد المملكة المتحدة (1996) أن احترام معتقدات الآخرين جزء من الحفاظ على “السلم الديني والاجتماعي”.
في المقابل، تمثل الولايات المتحدة نموذجًا مغايرًا، حيث يضمن التعديل الأول للدستور حرية التعبير حتى لو كان صادمًا أو مسيئًا، ففي قضية Hustler Magazine ضد Falwell (1988)، قررت المحكمة العليا أن السخرية من الرموز الدينية أو السياسية تظل محمية طالما لم تتضمن تحريضًا مباشرًا على العنف.
أما في آسيا، فيعتبر النموذج الهندي تقييد حرية التعبير المسيئة للأديان حماية للتنوع الديني الهش، كما يظهر في الأحكام الصادرة ضد دعاوى الإساءة الدينية على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تعتبر هذه الممارسات جريمة بموجب المادة 295 من قانون العقوبات الهندي.
أما في العالم العربي والإسلامي فإن حرية التعبير في القضايا ذات الصلة بالمعتقدات فتظل مؤطرة بالمكانة التي يحتلها الدين في الحياة العامة، وبالقوانين الجاري بها العمل.
وهنا نختم بالقول، بأن مفهوم الحرية يختلف من مجتمع لآخر ومن ثقافة لأخرى، لذلك فإن الحرية في النهاية تجربة وليست مفهومًا مجردًا، كما يرى المفكر المغربي عبد الله العروي. ولذلك فإن تطوير النقاش في هذه القضايا من منظور فكري يعتبر مسألة صحية، للإسهام في ترشيد الممارسة وصيانة حرية التعبير من الاستبداد من جهة، ومن التسيب من جهة أخرى في إطار التعاقدات الكبرى المستقرة في أسمى قانون في البلاد وهو الدستور.