story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

من قاعات المحاضرات إلى طوابير البطالة… حكاية علم السياسة

ص ص

أن تدرس علم السياسة والقانون الدستوري في المغرب، يعني أنك اخترت تخصصًا يجلس على طاولة الكبار معرفيًا، لكنه يقف في آخر الصف عندما تُوزَّع فرص الشغل. هذا المجال، الذي يشتبك مع أعمق أسئلة الدولة والسلطة والشرعية، يُعامل في سوق العمل وكأنه رفاهية فكرية لا حاجة لها، رغم أنه في الدول الديمقراطية المتقدمة يُعتبر ركيزة لصناعة القرار وتكوين النخب، لا احد ينكر أن الجامعات المغربية تمنح طلبة هذا التخصص تكوينًا نظريًا رفيعًا، يراوح بين دراسة النظم السياسية، وتحليل السياسات العمومية، وفهم القانون الدستوري، ورصد التحولات الدولية، لكن حين يتخرج الطالب يجد نفسه أمام واقع مهني مختلف تمامًا: وظائف قليلة، بعضها أُغلق عمدًا في وجه هذا التخصص، وكأن المطلوب هو تقليص عدد العقول القادرة على النقد والتحليل.

في فرنسا، معاهد الدراسات السياسية هي ممر إجباري نحو النخبة: الوزراء، السفراء، كبار الموظفين، رؤساء المؤسسات العمومية، وحتى بعض رؤساء الجمهورية، الدولة هناك لا ترى في خريج العلوم السياسية خطرًا، بل أداة ضرورية لتجديد دمائها وتطوير أدائها.

في أمريكا، الجامعات العريقة تصنع من خريجي هذا المجال مستشارين للرؤساء، ومهندسي الحملات الانتخابية، وخبراء استراتيجيات في كبرى الشركات، ثم تدمجهم في شبكة معقدة من العلاقات المهنية التي تضمن لهم تأثيرًا مباشرًا على القرار.

أما في المغرب، فالدولة تبدو متذبذبة في موقفها: هي من جهة تحتاج إلى العقول التي تشتغل على التفكير الاستراتيجي، وصياغة السياسات العمومية، وفهم القانون الدستوري، ومن جهة أخرى تُضيّق مساحات إدماجهم في المؤسسات، صحيح ان المطلوب ليس أن يصبحوا خريجي هذا التخصص جميعا في السلك الدبلوماسي أو وزراء لكن لا يعني أن نرمي بهم لهاوية البطالة .

ملك البلاد، الملك محمد السادس خريج هذا التخصص، ومع ذلك، لم تتحول هذه الرمزية إلى إرادة سياسية واضحة لوضع التخصص في مكانته الطبيعية.

خريجو هذا المجال في المغرب هم من أكثر الفئات التي تكسر جدران التخصص، ليس حبًا في التنقل بين الحقول المعرفية، بل اضطرارًا للبقاء على قيد الحياة المهنية، ستجدهم يدرّسون في الثانويات، أو يكتبون في الصحف، أو يديرون الجمعيات، أو يعملون في البحث الميداني، أو حتى يتسللون إلى تخصصات قريبة مثل القانون الخاص او الاقتصاد و غيره . فقط لعل وعسى يقتنصون فرصة عمل في بلد تنخره البطالة، وتُعتبر فيه الوظيفة أشبه بمنجم ألماس مغلق بإحكام، يصبح خريج العلوم السياسية لاعبًا متعدد المراكز، ينتقل من موقع إلى آخر، دون أن يجد فريقًا يعاقده بشكل رسمي.

المشكلة أن التكوين النظري الذي يحصل عليه هؤلاء الخريجون، وهو من أقوى ما يمكن أن تمنحه الجامعة المغربية من حيث العمق والتحليل، يتحول في الواقع إلى عبء، سوق الشغل يفضل المهارات التقنية المباشرة أو التخصصات الإدارية البسيطة، بينما العلوم السياسية تنتج عقولًا ناقدة، قادرة على فهم السياقات وتحليل البُنى، وهي قدرات لا يجد أصحابها مكانًا في منظومة تفضل تسيير الأمور كما اعتادت، دون كثير من الجدل.

الأدهى من ذلك أن بعض الوظائف التي كانت مفتوحة أمامهم قبل سنوات، أُغلقت تدريجيًا لصالح تخصصات أخرى، وفي أحيان كثيرة بلا مبرر أكاديمي حقيقي، بل ربما برغبة في الحد من تدفق هذا النوع من الكفاءات إلى فضاءات القرار، وهنا نصل إلى المفارقة السياسية الكبرى: نحن نعلّم الطلبة كيف تُدار الدولة، ثم نمنعهم من الاقتراب من إدارتها.

علم السياسة والقانون الدستوري ليس مجرد تخصص جامعي، بل هو جهاز استشعار مبكر لأي دولة تريد أن تعرف أين تقف، وأين يجب أن تذهب، في الدول التي تحترم عقلها الجماعي، هؤلاء الخريجون هم ركيزة الدولة الحديثة، وفي الدول التي تخشى السؤال أكثر من الإجابة، يتحولون إلى كتّاب مقالات على فيسبوك، أو مدربين على التنمية الذاتية، أو موظفين في مجالات لا علاقة لها بما درسوه.

في النهاية، يبدو أن خريجي علم السياسة والقانون الدستوري في المغرب يشبهون خبراء صناعة السفن في بلد لا يريد أن يبحر… يملكون الخرائط، ويعرفون اتجاه الرياح، ويحسنون قراءة الأمواج، لكن القبطان يفضّل أن يبقى الميناء مغلقًا. والبحر، كما نعلم، لا يرحم من يخشى الإبحار، لكن طلبة هذا التخصص تعلموا منذ البداية أن السياسة فن الممكن.