قصّتي مع البوتشيشية

تعيش الزاوية البوتشيشية هذه الأيام، واحدة من أصعب الفترات التي تمرّ عليها في دورة حياتها التي تتجدّد مع رحيل كل شيخ من شيوخها، بعد ظهور خلاف واضح يكاد يصل إلى الانقسام، حول اختيار خليفة شيخها الذي توفي الأسبوع الماضي، الراحل جمال بن حمزة بن العباس، وتضارب الأنباء حول تنصيب ابنه منير بناء على الوصية المنسوبة إليه، وتعويضه بشقيقه معاذ.
وبدل الخوض في التفاصيل غير الدقيقة التي تتسرّب من هذا الاتجاه أو ذاك، أو الركون إلى التحليل النظري وفتح الكتب والدراسات التي تطرّقت إلى موضوع الزوايا في المغرب، وتحديدا الزاوية البوتشيشية، والتذكير بالأدوار التي تتجاوز ما هو روحي أو ديني؛ فضّلت أن أحكي قصتي الخاصة مع هذه الزاوية التي توصف بالأضخم والأكثر تأثيرا، بحكم تردّدي المنتظم، سابقا، على الملتقى الدولي الذي تنظّمه كل سنة بمناسبة ذكرى المولد النبوي، في مقرها المركزي الواقع في قرية مداغ ضواحي مدينة بركان.
تردّدت على هذا المحفل السنوي بانتظام، كصحافي، في الفترة ما بين 2008 و2012، انتقلت خلالها بين نشوة الاكتشاف والانبهار بالتفاصيل، إلى قرار بالكف عن خوض التجربة بعد شعور ب”الإشباع” المهني، وأشياء أخرى سوف يأتي ذكرها لاحقا.
كان اللقاء الأول مع الزاوية ومريديها ومسؤوليها، في إطار حضور إعلامي كبير كانت الزاوية تحرص عليه بمناسبة تنظيم الملتقى الدولي والاحتفال السنوي بذكرى المولد النبوي. وكانت المنابر الإعلامية الأساسية في المشهد تتلقى دعوات للحضور والتغطية، مع تسهيلات لوجستيكية تمكّن الفرق الإعلامية من التوفّر على إقامة، في مدينة السعيدية غالبا، والحضور طيلة أيام الملتقى الدولي حول التصوّف، والليلة الاحتفالية الكبرى التي تنظّم في اليوم الموالي لذكرى المولد النبوي، لتمكين مسؤولي الزاوية وكبار ضيوفها من حضور الليلة الاحتفالية التي يقيمها الملك ليلة ذكرى المولد النبوي.
هكذا كانت تجاربي مع ذلك المشهد الذي يعرف حج آلاف المريدين من جميع بقاع العالم، يقدّر المنظمون عددهم بما يفوق المئة ألف مريد، إلى مقر الزاوية القادرية البوتشيشية بجماعة مداغ.
وسجّلت، وفقا لما هو موثّق في تغطياتي المنشورة وقتها، تسخير المنظمين لهذا الغرض زهاء 350 حافلة لجلب المريدين من مختلف جهات المغرب، فيما كانت الوفود القادمة من أوربا وأمريكا الشمالية وآسيا وإفريقيا تصل إلى المغرب جوا.
كان المريدون يختلطون بشخصيات من مختلف الدواوين الوزارية والمؤسسات الرسمية للدولة، الذين يحضرون بصفتهم “مريدين”. بالإضافة إلى مثقفين ومفكرين مثل طه عبد الرحمان، والفيتنامي ميشال تاو شان، الذي كان مرشحا لمنافسة الكوري “بان كي مون” على منصب الأمين العام للأمم المتحدة، ومغني الراب العالمي عبد المالك…
كل هؤلاء كانوا ينصهرون في أجواء صوفية يتخللها الذكر وترديد الأوراد وتبادل النداء بعبارة “سيدي” والسلام بتقبيل الأيدي… وكان أحفاد شيخ الزاوية نجوم هذا الاحتفال، بظهورهم المفاجئ بين الفينة والأخرى، وإشرافهم على جوانب من التنظيم في توزيع محكم للأدوار، وعلى رأسهم منير القادري، رئيس الجمعية المنظمة للقاء، وعرّاب الزاوية دوليا.
أذكر جيّدا تفاصيل تغطياتي الأولى لفعاليات الملتقى الدولي حول التصوّف، وأذكر بالخصوص تلك الحفاوة والاحتفاء الكبيرين اللذين أبداهما مسؤولو الزاوية، وبعضهم كانوا ممن أعرفهم في الرباط كمسؤولين كبار في بعض الوزارات والإدارات…
وكما هو الحال في مثل هذه الحالات، فإن “الدعوة” للانضمام إلى الطريقة تُوجّه إليك بشكل ضمني وغير مباشر، وهو أمر طبيعي ولا داعي لتبخيسه أو إعطائه أي معنى سلبي. فمهما كانت المنافع والمصالح التي ينطوي عليها هذا التجمّع البشري، فإن هناك جانب معنوي وروحي يربط هؤلاء الأعضاء ببعضهم البعض وبالطريقة، والذي يعيش تجربة يعتبرها جميلة أو يجد فيها راحة أو متعة، طبيعي أن يدعو غيره للانضمام إليها.
“لا تعتقد أن العمل هو الذي أتى بك إلى هنا، بل هو نداء وجّهه إليك سيدي حمزة”، “أنت حامل لآيات رجال الله ولا شك أن بابا كبيرا قد فتح في وجهك”… بهذه العبارات وغيرها كنت وأنا الصحافي الملتحق بتجربة حضور هذا الملتقى الصوفي العالمي أسمعها، بينما لاحظت كيف أن قسما غير يسير من الإعلاميين “المتخصصين” في حضور وتغطية الملتقى هم من “مريدي” الزاوية.
استمرّت العلاقة بعد مشاركتي الأولى. وتخلّلتها دعوات لحضور “ليال” صوفية في مدينة الرباط حيث أقيم، وشرح لطرق الانضمام، وكيفية الحصول على الورد الخاص من الشيخ أو من المقدّم المحلّي… لكنني حرصت على الاحتفاظ بموقع الصحافي الملاحظ من الخارج، مع الاهتمام من منطلق مهني.
فالأمر يتعلّق بتجمّع بشري كبير، يضم جنسيات مختلفة وروافد مهنية متنوعة، من بينها تكتلات فئوية، ومواقع متقدمة في بعض المستويات التدبيرية، وقرب واضح من الدولة عبر شيوع فكرة انحدار وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق من هذه الزاوية، والعناية الملكية الواضحة بها، وحضور وجوه بارزة من عالم المال والأعمال والرياضة…
تدريجيا بدأت أشعر أن هناك انزعاج متزايد مني لدى البعض، بحكم عدم التحاقي بالزاوية ومواصلتي الاشتغال عليها كموضوع، مع ما يعنيه ذلك من تطرّق لبعض “المحظورات” أو الجوانب السلبية.
كنت أشعر بمنسوب هذا الانزعاج يرتفع، كلما زادت جرعة خروجي عن الإطار المرسوم للتغطيات الصحافية للملتقى الدولي السنوي، كمثل تحرّكي دون إخبار عناصر “الرفقة” التي تتولّى المراقبة اللصيقة للصحافيين تحت مسمى المساعدة والإرشاد، وقيامي بأعمال صحافية لا تخدم الأغراض التواصلية للزاوية، حيث أصبحت بعد التجربة الأولى وتعرّفي على الميدان ومحيط الملتقى الدولي، أسافر بوسائلي الخاصة، من نقل وإقامة، وتتحمّل مؤسسة “أخبار اليوم” التي كنت أشتغل ضمن فريقها للنفقات.
ربورتاجات حول أوضاع قرية مداغ الفقيرة، ونقل ارتسامات سكانها الذين يكاد بعضهم لا يحمل أي شعور تجاه الزاوية التي يحجّ إليها المريدون من جميع أنحاء العالم، وطرح لسؤال التباين الكبير بين فقر القرية وإمكانيات الزاوية التي تبدو ضخمة خلال أيام الملتقى… ثم قيامي بالتردد على زاوية صغيرة لكنها مميّزة غير بعيد عن مقر الزاوية البوتشيشية، وهي الزاوية الدرقاوية الهبرية، ومحاورتي لشيخها المختار الهبري، أستاذ الرياضيات المتقاعد والمستعمل لخطاب أكثر واقعية ووضوحا…
كل ذلك جعل مهامي السنوية تصبح بمثابة الزيارة الثقيلة. ولا يبدو أن حواراتي مع حفيد الشيخ حمزة، منير البوتشيشي، والذي يدافع فيها عن دور الزاوية وخدماتها الدبلوماسية والروحانية التي تقدمها للدولة، وحقها في التمتع بالدعم بعد “التهميش” الذي عاشه التصوّف في المغرب على مدى عقود… (لم تكن) تشفع لي، خاصة بعدما أصبحت أقل تحفظا وانضباطا لقواعد التحرّك داخل فضاءات الزاوية، وقمت في زيارتي الأخيرة باقتحام محظور من محظورات الصحافة، وهو لحظة “الزيارة” التي يقوم بها المريدون للقاء الشيخ ورؤيته بالعين المجرّدة.
فمباشرة بعد تسليمات نهاية صلاة العصر لذلك اليوم، كانت قوافل المصلين تهرول نحو مدخل إقامة الشيخ المحادية لضريح المختار القادري البوتشيشي، لينتظموا في صف طويل يتململ كقطار بطيء، وفي الجهة المقابلة للصف الرجالي، طابور لا يقل طولا ل”الفقيرات” الراغبات في أداء الزيارة، أي الحصول على فرصة اللقاء المباشر مع الشيخ حمزة وتحيته عن قرب.
ورغم أن الطقس يحمل دلالات أخرى، تتمثل في الحصول على دعوات الشيخ والأوراد الخاصة بكل فقير، إلا أن كثرة المريدين لا تسمح بأكثر من نظرة قصيرة ومرور سريع أمام الشيخ المدد فوق سريره.
“اندساسي” في صف المريدين، ووصولي إلى بوابة الدخول على الشيخ، الذي كان القائمون على الزاوية قد خصصوا لي زيارات فردية للقائه لبضع دقائق في زيارات سابقة، أثار الاضطراب بين الحراس، ليركض أحدهم نحو أحد مسؤولي الطريقة ويقول له “الصحافة جات”، ويسارع هذا المسؤول إلى دعوتي للتقدم نحو باب الخروج بسرعة.
كان الشيخ حمزة ممدّدا فوق سريره كالمعتاد، وقد التف حوله بعض حفدته ومقرّبيه، وعلى الجانب الآخر، كان يقف مجموعة من الشبان مرددين الأذكار ومهتزّين نحو الخلف ثم نحو الأمام، وبين الفينة والأخرى يرتفع صوت أحدهم بالصراخ.
“الزيارة آ الفقرا الزيارة الله يعطيكوم الخير” يردّد منظّم آخر، مشيرا إلى كيس كبير يحمله أحد أعوان الشيخ لكي يلقي فيه المريدون ما جادوا به من أوراق مالية… وهو ربّما المشهد الذي لم يكن يراد لي أن أشاهده.
صادفت مشاركتي الأخيرة في الملتقى الدولي للتصوّف الذي تنظّمه الزاوية، عام 2012 الموالي لما يعرف ب”الربيع العربي”. وكانت الجريدة التي أعمل لحسابها قد نشرت افتتاحية تهاجم الزاوية بقوة لتنظيمها مسيرة مناهضة لحركة 20 فبراير…
في دردشة أجريتها مع حفيد الشيخ وقتها، منير القادري بوتشيش، قال لي إن الزاوية كانت تنتظر أن يضيف الدستور الجديد التصوف السني إلى العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي، في حديثه عن الهوية الدينية للمملكة، “وهذه كانت الملاحظة التي أبادها الشيخ سيدي حمزة وأبديناها جميعا بعد اعتماد الدستور الجديد”.
لكن ما سيجري لاحقا أكد لي أن “صبر” القائمين على الزاوية قد نفذ مع صحافي لم يلتحق بالصفوف، و”غير منضبط”، وجريدته تنشر افتتاحية قوية ضد خروج البوتشيشيين إلى الشارع لمواجهة حركة تطالب بالكرامة والديمقراطية…
في اليوم الموالي لذكرى المولد النبوي، والذي سيشهد الليلة الكبرى للزاوية، وبحكم معرفتي الدقيقة بما سيجري من طقوس، وما يتطلّبه الأمر من تموقع لرصد التفاصيل وكتابة ربورتاج يصف بدقة، وينقل التفاصيل إلى القراء، كنت قد اتخذت بشكل مبكّر مكانا استراتيجيا داخل المسجد الكبير الذي يحتضن تلك الاحتفالية، وضمنت للزميل المصوّر الذي يرافقني موقعا يسمح له بتصوير المنصة حيث سيجلس الشيخ وحاشيته. لأفاجأ بأعضاء من الزاوية يقصدونني ويطلبون مني الالتحاق ب”سيدي منير”، لأنه يريد الحديث إلي.
حاولت أقناع المبعوثين أنني في عزّ التغطية وأحتاج إلى التركيز في عملي والبقاء في موقعي قبل أن يكتظّ المكان… لكنّهم أصرّوا، ف”سيدي منير” أصدر الأمر ولا يمكنهم العودة بدوني. استجبت للطلب، والتحقت بمكان وجود حفيد الشيخ، وهو قاعة داخل بناية صغيرة، حيث وجدته مع بعض مرافقيه.
بعد التحية ودردشة قصيرة، بادرني أحد مرافقي حفيد الشيخ بالسؤال عن تكلفة ومصاريف تنقلي وإقامتي خلال فترة التغطية، وأن هناك استعداد ل”مساعدتي” في ذلك…
أخرجت من جيب سترتي ورقة الأمر بمهمة التي منحتني إياها مؤسستي، وضمنها مبلغ التكاليف التي تتحمّلتها، وتغطي مصاريف النقل والإقامة، وأنني لا أحتاج إلى أية مساعدة مادية…
وبينما حاول المتحدّثون الإصرار، أخرجت من محفظتي آلة رقمية للتسجيل الصوتي ((magnétophone وقمت بتشغيلها داعيا المسؤول الأول عن الملتقى الصوفي، منير بوتشيش، إلى الجواب عن أسئلتي لأنني اعتبرت اللقاء فرصة لإجراء استجواب، وهو ما تمّ بالفعل رغم بعض الحرج والوجوم الذي خيّم على المكان.
كان من حظي أن قدّم لنا العشاء، وكان طبق كسكس شهي، ثم وقفت منصرفا ومعتذرا إلى أنني يجب أن ألتحق بالمسجد لتغطية فعاليات الليلة.
وبينما أنا أهم بارتداء نعلي والمغادرة، كان منير بوتشيش يلتحق بي، دون أن يرتدي نعله، وطلب مني عدم رفض هدية الزاوية التي سيتم التفكير في جعلها “عينية”، وأن هدية الزاوية لا تردّ وبالتالي علي ألا أرتكب هذا الخطأ.
شكرته واستأذنته في الانصراف بسرعة لأنني تأخرت، والتحقت بالمسجد حيث تابعت فعاليات الليلة، ورصدت تفاصيلها، من حضر؟ ومن غاب؟ وكيف تفاعل المريدون، وما هي لحظة الذروة…
وبما أنني أصبحت عارفا بتفاصيل طقوس الليلة، فقد بادرت قبل دقائق من نهايتها، إلى دعوة زميلي المصوّر إلى جمع معداته كي نغادر فورا. وهو ما تمّ، حيث ركبنا السيارة، وغادرت متجنبا حرج “الهدية”، وفي ذهني قرار بأن تجربتي مع هذا الملتقي انتهت، وهو ما أخبرت به إدارة تحرير جريدتي، في رسالة إلكترونية عدت لقرائتها بمناسبة كتابة هذا المقال، حيث سردت التفاصيل (…) وقلت إنني لن أستطيع العودة من جديد إلى ملتقى مداغ.