story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
سياسة |

أحمد بوز يكتب: “مغاربة إسرائيل” هل هم مغاربة؟

ص ص

في مقاله الأخير حول “استحالة اللعبة المزدوجة: حب المغرب والصمت حول غزة”، أعاد نجل الراحل عبد الرحيم بوعبيد، والكاتب العام للمؤسسة التي تحمل اسمه، طرح نقاش قديم لكنه يكتسب اليوم بعدا جديدا وحساسا، في ظل المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة، والمواقف التي يتبناها أشخاص كانوا من قبل مغاربة فقط، ولكنهم أصبحوا اليوم جزءا لا يتجزأ من دولة احتلال.

فرغم أن موضوع مغربية هذه الفئة من الأشخاص لطالما أثار جدلا في الأوساط السياسية والثقافية والاجتماعية المغربية، فإن إعادة طرحه اليوم لا يقتصر فقط على الجانب الهوياتي أو الثقافي، بل يتصل أيضا بأبعاد سياسية وإنسانية عميقة، تدفع إلى إعادة النظر في مفهوم الانتماء والهوية في سياق الشتات والتغيرات الجيوسياسية، وإعادة التفكير في ما إذا كانت الهوية المغربية هي مجرد ارتباط بالأصول والتقاليد، أم أنها تتطلب مشاركة فعلية في القضايا التي تهم الوطن الأم وشعبه.

فلم يكن خروج اليهود المغاربة إلى إسرائيل محض هجرة دينية، ولا مجرد تعبير عن انتماء ديني مختلف، بل كان لحظة مركبة من التعقيد التاريخي والسياسي، تختزل تفاعلات عميقة بين الهوية والدولة والدين والجغرافيا وعوامل أخرى.

فمنذ منتصف القرن العشرين، بدأت موجات متتالية من الهجرة اليهودية من المغرب نحو “أرض الميعاد”، مدفوعة بمزيج من العوامل، منها شعور بالخوف من تغيرات ما بعد الاستعمار، وضغوط الحركة الصهيونية، وعوامل اجتماعية واقتصادية داخلية.

ورغم مضي عقود على استقرار آلاف اليهود المغاربة في إسرائيل، لا يزال سؤال الانتماء يتردد في الخطاب العام: هل ما زال مغاربة إسرائيل مغاربة؟

وحتى على افتراض أن الإجابة عن سؤال من هذا النوع تقتضي تجاوز الطرح الثنائي للهوية، الذي يحشر فئة من الناس في ثنائية إما هنا أو هناك، بما أن الواقع يشي بهويات هجينة ومتداخلة لا تستقيم فيها حدود الانتماء الوطني أو القومي وفق النماذج التقليدية، وأن المغرب يعد من بين الدول التي لا تسقط الجنسية على رعاياها الذين يحملون جنسيات دول أخرى، فإن تجاوز هذه الثنائية لا يعني أيضا التسليم البسيط بأنهم “مغاربة” وكفى.

فالأمر يبدو أكثر تعقيدا، إذ يتداخل فيه ما هو تاريخي وثقافي وعاطفي مع ما هو سياسي وأخلاقي، ويطرح أسئلة عميقة حول معنى الانتماء في ظل مواقف وسلوكيات قد تتعارض مع قضايا جوهرية للوطن الأم وشعبه.

ثمة عدة صور تشي بأن اليهود المنحدرين من المغرب في إسرائيل لا يزالون يحتفظون بمظاهر ثقافية متعددة مرتبطة بالمغرب، من الطعام والموسيقى إلى اللغة والعادات، وحتى الاحتفاء بالزوايا والمقامات اليهودية المغربية.

ولا يكاد يمر احتفال ديني أو وطني في أوساطهم دون استحضار لذاكرتهم المغربية، بما يعنيه ذلك من حنين وهوية وأصل. ويعتبر المغرب بالنسبة إليهم، أو على الأقل إلى فئات منهم، ليس مجرد بلد نشأة، بل ركيزة وجدانية وهوية جماعية لا تذوب بسهولة.

غير أن هذا الارتباط الثقافي والوجداني لا ينفصل عن تاريخ أعمق من التوترات الكامنة. من جهة، فإن التجربة المغربية نفسها لم تكن خالية من الاحتكاكات أو من أشكال الانعزال الاجتماعي، إذ يعكس تاريخ اليهود في المغرب مزيجا من لحظات الانسجام ومراحل الحذر، حيث شكّلت أحياء “الملاح” المغلقة مثالا على الحدود الاجتماعية التي ظلت قائمة.

هذا الماضي، بما فيه من تضامن وتباعد في آن واحد، ألقى بظلاله على تجربة الهجرة، وساهم في تشكيل تمثلاتهم لأنفسهم ولغيرهم داخل إسرائيل.

ومن جهة أخرى، فلما وصل اليهود المغاربة إلى إسرائيل، لم يكن اندماجهم في المجتمع الجديد أمرا يسيرا أو تلقائيا، بل واجهوا واقعا اجتماعيا شديد التعقيد، تهيمن عليه طبقات وامتيازات يملكها في الغالب اليهود الإشكناز.

وقد أدى ذلك إلى موجات من الاحتجاجات في الثمانينيات ضد التمييز، حيث وجد كثير من الشرقيين، ومن بينهم المغاربة، أنفسهم مضطرين إلى التعبير عن غضبهم والمطالبة بالمساواة. وفي هذا السياق، أصبح التمسك بالهوية المغربية ليس بالضرورة مجرد ممارسة ثقافية، بل وسيلة للدفاع عن الذات وتأكيد الحضور في مواجهة التهميش.

لذلك، فإن هذه الهوية التي تستحضر في المطبخ والموسيقى واللهجة المغربية تصطدم عند لحظة الاختبار بسؤال الموقف السياسي والأخلاقي. وهنا يبرز التناقض: هل يمكن لمن يحتفل بالثقافة المغربية أن يكون في الوقت نفسه جزءا من جيش أو مؤسسات دولة تتخذ مواقف تتعارض جذريا مع قضايا يعتبرها المغاربة جوهرية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية؟ هذا التناقض لا يلغيه الحنين ولا الرموز الثقافية، بل يجعله أكثر حدة، لأنه يربط بين ذاكرة مشتركة وممارسات سياسية متباينة بل ومتصادمة أحيانا.

صحيح أن الدولة المغربية ـ خصوصا منذ التطبيع الرسمي مع إسرائيل في دجنبر 2020 ـ اختارت أن تعيد ربط الجسور بشكل أكبر مع هؤلاء اليهود، ليس فقط بصفتهم جالية مهاجرة، بل بصفتهم جزءاً من “الرأسمال الرمزي” الذي يمكن استثماره في “الدبلوماسية الناعمة”، وكرافعة لتحسين العلاقات مع واشنطن عبر بوابة تل أبيب، وتوسيع نفوذ المغرب داخل اللوبيات اليهودية. وقد تجلى ذلك في تبني خطاب رسمي يلح على مغربية هؤلاء، ويقدمهم كجزء من التعدد الديني والثقافي الذي ميز التاريخ المغربي. بل إن الدستور المغربي نفسه لم يتجاهل هذه الواقع لما نص في ديباجته على العبرية باعتبارها من بين الروافد التي تغني مكونات الهوية الوطنية والمغربية.

ومع ذلك، فإن هذا الخطاب الرسمي لم يتحول بعد إلى وعي اجتماعي جماعي، حيث لا تزال صورة اليهودي المغربي في المخيال الشعبي تتأرجح بين الحنين والفجوة، بين الاعتزاز بالتاريخ المشترك والرفض للتطبيع. أكثر من ذلك، فإن بعض المبادرات التي حاولت التقريب بين المجتمع المغربي ويهود إسرائيل اصطدمت بجدران صلبة من الشك والرفض. وهو ما يكشف أن الهوية ليست فقط شأنا قانونيا أو ثقافيا، بل هي أيضاً شأن وجداني يتأثر بالسياسات والمواقف والمشاعر الجمعية.

وبالتالي، فإن “مغاربة إسرائيل” حتى وإن تم التسليم بكونهم مغاربة بالمعنى القانوني الصرف، وبأنهم يحملون رصيدا ثقافيا وتاريخيا يمكن فهمه كمكون من مكونات الهوية المغربية الواسعة، التي تتسع لليهودية كرافد أصيل، فإن انتماءهم إلى إسرائيل يخلق حالة من الازدواج، أو لنقل المفارقة، يصعب معها تحديد موقعهم الرمزي بدقة داخل الذاكرة الوطنية. فهم “من المغرب” ولكن “ليسوا فيه”، وهم “يحملون هويته” ولكن “يخدمون دولة أخرى”، وهم “يحتفلون بثقافته” ولكن “قد يصمتون عن مظالم تمارس باسمهم”، هذا إذا لم يكونوا هم أنفسهم، أو على الأقل بعضهم، أشد إيلاما وتطرفا عندما يخدمون في الجيش أو يكونون جزءا من التنظيمات المتطرفة في هذا الكيان.

وهذا ما يجعل سؤال “هل هم مغاربة؟” يظل مفتوحا، ليس فقط على المستوى القانوني، بل في عمق الوعي الجمعي: ما معنى أن تكون مغربيا؟ وهل تكفي الذاكرة والانتماء الرمزي لذلك؟ أم أن للمواطنة مقتضيات أخرى تتعلق بالموقف السياسي، وبالارتباط الحي، وبالولاء الفعلي؟ وهل يمكن للدولة أن تواصل توظيف هذه الهوية الرمزية دون أن تخضعها يوماً لنقاش عمومي حقيقي، يتجاوز البراغماتية السياسية نحو مساءلة وطنية صريحة؟

ربما حان الوقت لتفكيك هذا التوتر، ليس بهدف إنكار أو طرد أحد من “الهوية”، بل لفهم أن الانتماءات اليوم ليست بالضرورة تلقائية أو متجانسة، ولا يمكن اختزال “مغاربة إسرائيل” في كونهم مجرد امتداد للهوية المغربية. فهويتهم معقدة ومتشعبة، تتأثر بتجارب مختلفة، وتعيش توترات داخلية بين الانتماء الثقافي إلى المغرب والولاء السياسي لدولة أخرى. لذلك، إذا كان هذا الأمر يجعل العديد من المغاربة يصعب عليهم اعتبارهم كمغاربة بالمعنى الكامل، فإن التعامل مع قضيتهم يظل يطرح كحالة تعكس هشاشة وتداخل الهويات في عالم معولم ومتغير.