story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

غرفة العمليات6.. حرب نووية وشيكة

ص ص

كانت واشنطن في ذلك المساء البارد من أكتوبر 1973 تعيش على وقع أزمتين متداخلتين، واحدة داخلية تفتك بشرعية الرئيس، وأخرى خارجية تهدد استقرار العالم.

وفي قبو البيت الأبيض، كانت أضواء غرفة العمليات مشتعلة، والهواتف الحمراء تلمع في زواياها، وشاشات الخرائط تعرض خطوطا تتبدل كل دقيقة في الشرق الأوسط، حيث اندلعت حرب “يوم الغفران”.

أما في الطابق العلوي، حيث يفترض أن يجلس قائد الدولة الأعظم، فكان ريتشارد نيكسون غائبا عن المشهد، غارقا بين كأس من الـ”بالانتاينز” وجرعة من الحبوب المنومة، هاربا من جحيم “ووترغيت” إلى عزلته.

في تلك الليلة، لم يكن الخطر في سيناء أو على ضفاف قناة السويس فقط، بل في الفراغ الذي تركه رجل يفترض أنه صاحب القرار الأخير في مواجهة السوفيات.

كانت موسكو، على الطرف الآخر من العالم، تتحرك بثقلها، تدفع بقطع بحرية محمّلة بأسلحة نووية تكتيكية نحو المتوسط، مهددة بالتدخل المباشر إذا واصلت إسرائيل خرق وقف إطلاق النار.

وفي البيت الأبيض، كان هنري كيسنجر، وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي، يدرك أن ساعة الحسم تقترب، وأن أي خطأ في الحسابات قد يدفع بالعالم إلى مواجهة لم يعرف مثلها منذ أزمة الصواريخ الكوبية.

الغريب أن كيسنجر لم يذهب ليوقظ الرئيس. لم يكن الأمر مجرد صدفة، بل لأن من حول نيكسون، وعلى رأسهم كبير موظفي البيت الأبيض ألكسندر هيغ، كانوا يعرفون أن الرجل لم يعد في وضع يسمح باتخاذ قرارات مصيرية.

كانت الدولة تُدار بتواطؤ ضمني على تجاوز القائد الأعلى للقوات المسلحة، في سابقة تكشف أن النصوص الدستورية شيء، وإيقاع السلطة الفعلية في لحظات الخطر شيء آخر.

في تلك الغرفة، اجتمع فريق مصغر من أقوى الرجال في أمريكا: وزير الدفاع جيمس شليزنغر، رئيس الأركان توماس مورر، مدير الـCIA وليام كولبي، وهيغ وكيسنجر، وغيرهم من العقول الباردة التي لا تعرف النوم.

كان على الطاولة خطاب شديد اللهجة من موسكو إلى واشنطن، يحمل تهديدا مبطنا: “إذا لم نتحرك معا، فسنتحرك منفردين”. بالنسبة لكيسنجر، كان هذا إعلان نوايا خطير، ولابد من رد يغيّر قواعد اللعبة. لم يكن لديه ترف الوقت أو رفاهية الانتظار حتى يستيقظ الرئيس.

هنا اتُّخذ القرار: رفع حالة التأهب العسكري الأمريكي إلى DEFCON 3، وهي درجة استنفار لم يعرفها الجيش منذ أزمة كوبا. فجأة، تحركت حاملات الطائرات، وأقلعت أسراب الـB-52، وتم استدعاء قوات الإنزال الجوي، وأُطلقت إشارات الإنذار في القواعد الأمريكية بأوروبا وآسيا.

لم يكن هذا استعراضا للقوة فحسب، بل رسالة صادمة إلى الكرملين: حتى لو كان الرئيس غائبا، فإن أمريكا مستعدة للذهاب إلى حافة الهاوية.

كان ما جرى تلك الليلة أشبه بمباراة شطرنج يلعبها طرفان بلا ملك على الرقعة. ففي موسكو، كانت الأمور لا تقل سوءا. ومع ذلك، كان يكفي أن يضغط أحد الجنرالات على زر خاطئ حتى ينفجر كل شيء.

لكن المعجزة وقعت: خلال 24 ساعة، انتهت الحرب. ليس بفضل حكمة القادة العظام، بل بسبب حذر لاعبين يدركون أن الخطأ يعني النهاية.

خرج كيسنجر من الأزمة وقد عزّز صورته كمهندس الدبلوماسية الأمريكية، بينما خرج نيكسون أكثر عزلة وضعفا، يجر خلفه عبء “ووترغيت” حتى لحظة استقالته بعد أقل من عام.

هذه القصة درس عميق وتذكير بأن العالم، مهما بدا منظما وقائما على توازنات دقيقة، قد يُدار أحيانا في لحظاته الأخطر عبر قنوات غير رسمية، وبقرارات تُتخذ في غرف مغلقة، بين حفنة رجال، بينما الشعوب تتابع الأخبار وهي لا تعرف أنها كانت قبل ساعات على بعد خطوة من الكارثة.

في تلك الليلة، لم يكن الحظ حليف نيكسون وحده، بل حليف الإنسانية كلها.

ما يجعل هذه الحكاية أكثر إثارة للقلق أننا لسنا في منأى عن تكرارها اليوم، وربما بشكل أخطر. العالم الذي عاش على حافة الحرب النووية في 1973 بسبب غياب أو عجز قائد، يعيش الآن في زمن تعددت فيه الأزمات، وتشابكت فيه خطوط النار من أوكرانيا إلى بحر الصين، ومن الشرق الأوسط إلى قلب إفريقيا.

التكنولوجيا التي تطوّرت اليوم لم تُلغِ هشاشة القرار، بل زادتها تعقيدا؛ فزرّ الإطلاق أصبح أقرب، وضغطه لم يعد حكرا على رجل واحد في قمة هرم السلطة، بل في أحيان كثيرة بيد منظومات عسكرية آلية، أو دوائر ضيقة قد تتصرف خارج رقابة الشعوب.

في حاضرنا، كما في تلك الليلة داخل غرفة العمليات، ما زال بإمكان حفنة من الرجال، أو حتى حادث سيبراني أو تقدير استخباراتي خاطئ، أن يغيّر مصير الكوكب في ساعات. أي أن الخطر لم يعد فقط في مواجهة الأعداء، بل في مواجهة فراغ القيادة، أو جنونها، أو ارتهانها لدوائر مغلقة تظن نفسها أذكى من التاريخ.

والدرس الذي يفرض نفسه: في عالم مترابط إلى هذا الحد، لا يحتاج الانهيار إلى حرب شاملة، بل يكفي قرار متهور واحد… أو لحظة غياب.