لحسن لعسيبي: اكتشفت ولعلو مختلف خلال تجربة كتابة مذكراته “زمن مغربي”

يفتح الصحافي والكاتب المغربي لحسن لعسيبي، في هذا الحوار المطوّل والمكاشف، صندوق أسراره الخاص بتجربة فريدة من نوعها؛ تجربة استمرت لما يقارب العقد من الزمن إلى جانب أحد أبرز وجوه الدولة المغربية الحديثة، فتح الله ولعلو.
من شقة عبد الرحمن اليوسفي بالدار البيضاء إلى جلسات أسبوعية امتدت لسنوات ببيت ولعلو في الرباط، يرسم لعسيبي، محرّر كتاب المذكرات، صورة دقيقة لتلك الرحلة التي لم تكن مجرد تفريغ لذاكرة سياسية، بل تمريناً على مساءلة التاريخ، وكتابة شهادات مسؤولة تحترم الحقيقة وتقاوم غواية تصفية الحساب أو تمجيد الذات.
يتحدث لعسيبي هنا عن المنهجية التي أطّرت العمل، وعن التفاهم الفكري والأخلاقي الذي جعل من ولعلو “راويا مطمئنا” و”شريكا متفاعلا” في كل لحظة من لحظات التوثيق.
كما يكشف جوانب خفية من شخصية هذا الرجل الذي مارس السلطة بتواضع، وعاش السياسة باعتبارها التزاما، واعتبر المذكرات وسيلة للمصارحة مع الذات والتاريخ، لا أداة للدعاية الذاتية.
س: كيف اشتغلت مع فتح الله ولعلو على فكرة المذكرات، وما التصور الذي وجهكم فيها؟ هل استهدفتم الجمهور العريض أم دوائر معينة من النخبة السياسية والثقافية؟
ج: طرح فكرة المذكرات كان أول مرة بشقة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي رحمه الله بحي لهجاجمة بالدار البيضاء ربيع سنة 2013، حين بادرني الدكتور فتح الله ولعلو إلى أنه يفكر في إنجاز مادة مفصلة حول ما يراه تجربة حياة وقراءة في محطات من تاريخ المغرب الحديث.
كانت صداقتنا المشتركة لليوسفي هي سقف الثقة بيننا، حيث اشتغلنا كما أشار هو إلى ذلك في آخر المقدمة التي وضعها للمذكرات بروح الإنتماء لنفس التوجه الفكري والسياسي مما جعلنا نلتقي في تحرير وترتيب ذكريات مشتركة.
اتفقنا على منهجية عمل حددت في لقاء أسبوعي ببيته في الرباط، مساء كل ثلاثاء، تعتمد ما يمكن وصفه بقطائع أو محطات أو خانات كبرى فيها تواؤم بين الخاص والعام. وأن الفكرة منذ البداية كما وضع خطوطها الأخ ولعلو هي أنه لا يرى إلى المذكرات كبوح ذاتي (على أهمية التجربة الذاتية إنسانيا) بل كرؤية لمسار حياة ضمن حركة عامة للمجتمع والبلد والناس.
أي أن حياة الفرد هي جزء من سياق عام. والمهم من البداية هو التركيز على السياق وليس على الحكاية الفردية، لأن السياق هو الذي يخلق المعنى. وهي منهجية اعتبرتها مريحة وسليمة تماما، بل ذكية ومفيدة. لأن الغاية هي استخلاص العبرة من واقع ما جرى بالمغرب إنسانيا، مجتمعيا ومؤسساتيا خلال الثمانين سنة الماضية.
س: ما هي التقنية المعتمدة إذن في تدوين المذكرات؟ هل اشتغلتم على مادة أولية أم هي جلسات حوار مطولة أم أرشيفات ووثائق وتقابل شهادات؟
ج: اعتمدنا تقنيا من البداية إلى النهاية جلسات تسجيل مطولة أسبوعيا لحوالي ثلاث سنوات كانت تدوم في المعدل تقريبا أربع ساعات متواصلة (ثم بعدها سنتين من التصحيح والتشذيب والإضافة أو الإلغاء). بحيث حرصت أنا بقرار مفكر فيه أن أحتفظ بشرائط التسجيل كلها، ووضعت لها ترقيما تسلسليا وتحديدا لتواريخ التسجيل، فبلغ عدد تلك الأشرطة 145 شريطا تسجيليا.
وحتى لا يقع تداخل في الخيط الناظم لمسار اللقاءات ذهنيا وفكريا، حرصت دوما على تفريغ كل شريط في نفس أسبوع التسجيل، مع احتفاظي بالنص المكتوب الذي بدأ يكبر أسبوعا بعد أسبوع ولم أسلمه للأخ ولعلو سوى بعد أن أنهينا كل فصول المذكرات.
كان الدكتور ولعلو على مدار أيام التسجيل يشتغل أسبوعيا على ترتيب أفكاره والعودة إلى جملة أرشيفات، فيما كنت أبحث من جانبي عن أي تفصيل إضافي حسب السياق الذي نكون نشتغل عليه بغاية تدقيق أسماء وأحداث وتواريخ ونصوص قانونية. فكان بالتالي عملا تكامليا.
أعترف أن امتلاك الأخ ولعلو منهجية الباحث الأكاديمي بيداغوجيا قد سهلت جزءا كبيرا من عملي المهني معه. بالتالي، كان العمل سلسا بجد على مدار الزمن الطويل الذي تطلبته عملية التسجيل. فالرجل منظم ذهنيا وفكريا ويصدر عن وضوح معرفي رصين وصلب. حيث في كثير من المرات يستشعر المرء وهو يتتبع الخيط الناظم للحكي والتحليل أنه بإزاء ورشة دسمة للتكوين والمعرفة.
س: هل واجهت صعوبة في دفع الرجل لاستحضار تفاصيل بعينها، أو سجلت أنه يتجنب الحديث عن بعض المواضيع؟
ج: بكل صدق مهني وأخلاقي، أعترف أن الرجل امتلك جرأة في مقاربة الكثير من الملفات، التي بعضها صعب ويحتمل تفسيرات وتأويلات متعددة. منها مثلا موقفه أو تحليله للعلاقة مع المرحوم الفقيه البصري وما يوصف ب “التوجه البلانكي”، ثم تداعيات حكاية الرسالة الشهيرة المنسوبة إليه التي نشرت بأسبوعية لوجورنال، ثم إعطاؤه تفسيرا جديدا لسبب منع تلك المجلة الذي لا علاقة له بنشر الرسالة.
ثم قراءته الجريئة نقديا للتجربة الحزبية للحركة الإتحادية في علاقتها بالملكية، ثم جرأة تحليل أعطاب الصراعات داخل الحزب التي موضعها في سياقات ثقافية وتربوية واجتماعية ومؤسساتية. ما جعله يُنضجُ في النهاية معنى للوقائع والأحداث وليس مجرد التموقع منها في هذا الإتجاه أو ذاك. وتحليل مماثل يفرض حقيقة الإحترام.
مثلما كان صريحا في علاقته مع بعض من مسؤولي الدولة الذين كانت سيرتهم موضوع نقاش ومتابعة مثل الراحل إدريس البصري الذي فرض عليه الإحترام بسبب وضوحه في التعامل معه مؤسساتيا، وليس بشكل شخصي أو فردي. كما أنه كان مبادرا في التعامل مع المعلومات الخاصة باللقاءات التي جمعته بالعاهل الراحل الحسن الثاني أو مع جلالة الملك محمد السادس، التي اعتبرها ليست مجالا لإبراز الذات قدر أنها وسيلة لرسم حقيقة شخصية كل واحد منهما وأسلوبه في العمل والتفكير.
ثم أخيرا مع تجربته للتدريس بالمعهد المولوي في فصل الأمير مولاي رشيد. دون إغفال رسم خريطة مدققة لمن يمكن اعتبارهم صناع “هوية ولعلو الفكرية والسلوكية” الذين أعتبرهم محددين في أربعة أفراد هم السيدة لوسي أوبراك (البطلة الأسطورية لمقاومة النازية بفرنسا وأستاذته لمادة التاريخ بليسي مولاي يوسف بالرباط)، والمهدي بنبركة، وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي. دون إغفال الدور التربوي البيداغوجي الرفيع لوالده عليه، والذي عامله دوما كصديق مما قوى من شخصيته باكرا.
س: هل معنى ذلك أنك تركت للراوي حرية التعبير أم تدخلت بصياغتك وأسلوبك؟
ج: كما سبق وقلت لك من قبل، كان هناك اختيار منذ البداية للعمل ضمن خانات موضوعاتية لها تسلسها الزمني والدلالي المؤكد. بالتالي، كان دوري الأكبر هو في ترجمة المادة الخام المسجلة لغويا وتركيبيا وأسلوبيا بما ينضج الفكرة ويجعلها سلسة على مستوى المقروئية.
صدقني، كثيرا ما كنت وأنا أفرغ التسجيلات وأحرر وأصحح المادة الخام، أتخيل دوما قارئا مفترضا أمامي وأتساءل كيف سيتفاعل مع هذه المعلومة أو تلك، مع هذه الجملة أو هذا البناء اللغوي دلاليا. بل إنه في بعض الأحيان وأنت تحرر جملا ومواد بعينها يحضر أمامك قارئ بعينه بصفته واسمه ومستواه إما المؤسساتي أوالإجتماعي أوالثقافي أوالفكري، وتجد نفسك تتساءل في داخلك: كيف سيقرأ ذلك القارئ الخاص هذه الفقرة أو هذه الجملة أو هذه المعلومة؟
وفي حالات أخرى وأنت تحرر المادة لا تستطيع الفكاك من السؤال عن كيف سيقرأ ما تركبه من جمل ومعلومات قارئ قادم بعد قرن من الزمن مثلا أو أكثر. بالتالي فإن هذا الهاجس أعتبره من شغف وجمال الكتابة والتدوين، يحقق متعة فكرية ونفسية لا توصف، لأنه يعلي من مستوى المسؤولية لديك وأنت تدون جملا وكلمات تحرص ألا تخون عمق فكرة صاحبها.
س: جديا هل استشعرت مسافة عند ولعلو بين الذاكرة (فعل التذكر كفعل إنساني) وبين ما يقوله التاريخ وتوثقه الوقائع؟ بصيغة أخرى كيف تعاملت مع هذا التوتر الذي يكون أحيانا في العلاقة بين الذاكرة والوقائع؟
ج: المكرمة التي أشهد بها بخصوص الأخ ولعلو هي تواضع الكبار الذي يميزه. فالرجل ينصت ويتفاعل وحين يظهر أن الأمر مسنود لا يحاجج، بل يتبنى بسرعة ويمر إلى الأهم الباقي. وأعتقد أن مرد ذلك أيضا إلى حجم الثقة الذي بيننا (مثلا طلب مني منذ البداية أن يظل موضوع المذكرات سرا بيننا. وكذلك كان لتسع سنوات كاملة، حتى بادر هو إلى إخبار من يراهم يستحقون أن يشاركهم في المعلومة شهورا قليلة قبل صدورها). بالتالي مسألة الثقة مهمة في أمور مثل هذه.
ما سجلته أيضا طيلة مراحل اشتغالنا المشترك على تحرير وترتيب فصول المذكرات (ثم جاءت بعدها مرحلة الصور)، أن الأخ ولعلو له ذاكرة قوية وصلبة، يتذكر الأسماء والتواريخ والتفاصيل، وهذا ربما راجع لطبيعة حياته اليومية كونه سباحا ماهرا ظل يمارس السباحة يوميا كل صباح باكر مثل طقس صلاة، وأنه منظم في أمور الأكل والنوم. مثلما أنه منهجي في طرائق عمله واشتغاله، بدليل أننا حين نلتقي في الأسبوع الموالي يضع أمامه أوراقا وملفات حرر فيها جزء من أفكاره ومعلوماته بخصوص طبيعة الجزء الذي بلغناه من المذكرات.
فهو رجل منظم جدا لا يعتمد فقط على الذاكرة بل كثيرا ما يرجع إلى الوثيقة لتعزيز ما يقول. لهذا السبب ليست هناك خصومة بين ما استحضرته ذاكرته وما تبوح به الوثائق حول الأحداث التاريخية التي دونت في المذكرات. فهي هنا ذاكرة منضودة فعلا.
س: كيف غيّرتك هذه التجربة؟ هل خرجت منها بنفس الصورة التي دخلت بها عن فتح الله ولعلو، وعن جيل الحركة الوطنية، وعن فكرة الدولة المغربية نفسها؟
ج: جديا لا. سمحت لي تلك اللقاءات المتواصلة أن أكتشف فتح الله ولعلو آخر مختلف تماما عن ذلك الذي كنت أرسم له صورة في ذهني. إنسانيا فهو رجل خلوق جدا، متواضع تواضع الكبار، جدي وجريئ، لا يجامل بل يذهب رأسا إلى الفكرة أو الموقف. تكاد تحس أن له علاقة خاصة مع الزمن. فالزمن بالنسبة له رأسمال يجب استثماره فيما يفيد دوما.
أما داخليا فهو يصدر عن هدوء روحي ونفسي صلب. مثلما اكتشفت أن الرجل صادق مع نفسه ولا يسجن ذاته في أوهام مكبلة.
ولأن بعض التفاصيل الصغيرة تبرز لك معدن الناس، كنت دوما أحترم فيه شكل تعامله مع فضاء بيته وأنه لا يصدر عن تعال وسلطوية، حيث انتبهت دوما كيف أنه هو من يقوم بتنظيف المائدة التي نشتغل عليها ويعيد كل شيء إلى مكانه في المطبخ قبل أن يصر على نقلي إلى محطة القطار الرباط أكدال. رجل منظم بذلك الشكل السلس هو متصالح مع ذاته في نهاية الأمر وهذا سر قوته ومناعته أيضا.
على المستوى الثاني من سؤالك أعتقد أن من حظ المغرب أن ولد فيه جيل مثل جيل الحركة الوطنية الذي أطر فكر وسلوك جيل الدكتور فتح الله ولعلو، الذي قدس قيم العمل وقيم الوطنية وقيم خدمة الصالح العام. وأن رجال دولة من قيمته شكلوا رأسمالا للمغرب لأنهم سلوكيا رسخوا يقينا هاما هو أن الحداثة ليست شعارا سياسيا أو ترفا فكريا بل هي منظومة سلوك مركبة ومتشابكة.
لقد خرجت بخلاصة مركبة عامة من مغامرة تحرير مذكراته (ببعض الهنات التي صاحبتها من جانبي وأعتذر عنها)، هي أن الرجل كان يخاطب التاريخ، من خلال المنهجية التي بلورها معي في كامل مراحل تسجيل مذكراته. بالتالي لم يكن يحكمه منطق تصفية الحسابات ولا منطق تمجيد الذات، قدر أنه كان مسكونا بتسجيل شهادة ذات وثوقية سيحاسبها التاريخ. فكان حرصه عاليا أخلاقيا وأدبيا وفكريا.
- هذا الحوار هو جزء من ملف العدد 74 من مجلة “لسان المغرب”، لقراءة الملف كاملا يرجى الضغط على الرابط