أحلام الحسن الثاني.. لماذا تبخرت؟

لا يمكن للمهتم بحال ومآل المغرب أن يسلم من العودة بين الحين والأخر إلى التاريخ القريب، لمحاولة الإمساك ببدايات الخيوط وتعقّب التطوّر الذي حصل في حياتنا الجماعية.
وبالأمس وأنا أراجع أرشيفي الشخصي وأعيد إحياء مادة قديمة حول آخر ما قاله الملك الراحل الحسن الثاني في خطبه الرسمية في الأسابيع الأخيرة من حياته؛ عاد سؤال لماذا نحن على ما نحن عليه اليوم ليفرض نفسه عليّ بقوة.
في وداعه الأخير، لم يكن الملك الراحل الحسن الثاني يُلقي كلمة رسمية في ذكرى عيد الشباب الذي “احتفل” به أسبوعين فقط قبل وفاته (العيد يوم 9 يوليوز والوفاة يوم 23 يوليوز)، بل كان يُلقي وصيته السياسية من منبر الدولة، ويغادر كرسيه مطمئنًّا إلى أن “المغرب سيهتزّ طربًا”، وأن “المال سيجري كالماء”، وأن العرش الذي بناه من نار ودم سيكون في يد من يشبهه… ولا يُشبهه.
لم يعلن أنه يودّع، لكنه فعل. سلّم ابنه “سيدي محمد” ولاية المشاريع التضامنية، وحدد له الأولويات: السكن اللائق، والطرق، والسدود، وفك العزلة، والعدالة الاجتماعية.
لقد قدّم الملك الراحل ابنه محمد السادس للمغاربة لا كوريثٍ بيولوجي فقط، بل كمندوب لمبادرة بدأت تظهر ملامحها في نهاية التسعينات: “ملك الفقراء”.
وبين خطاب العرش في مارس وخطاب عيد الشباب في يوليوز، قال الحسن الثاني كل ما يمكن أن يُقال عند الرحيل، بصوت مشحون بالمرض، ونَفَس مثقل بالحصيلة، لكنه مفعم بالتخطيط.
وإذا أضفنا إلى آخر ما قاله الحسن الثاني قبل رحيله، ما أثار اهتمامي بقوة في الأيام القليلة الماضية من خلال التفاصيل الدقيقة التي تضمنها كتاب مذكرات وزير الاقتصاد والمالية السابق فتح الله ولعلو، سنجد أن قادة الدول الذين لا يغادرون الحكم فعلا، وحدهم يُفكرون في المعارضة وهم يتهيؤون للمغادرة.
هذا بالضبط ما فعله الحسن الثاني. بعد أن أشرف بنفسه على إرجاع عبد الرحمن اليوسفي من منفاه، وتوفير شروط التناوب التوافقي، وعمل بذكاء جراحي على تأمين الطرف المقابل للسلطة، أي من سيتولى مهمة المعارضة، فأتى بالإسلاميين.
لم يرد الحسن الثاني أن يُسلم البلاد لأغلبيةٍ دون أقلية. ولا أن يُطلق يد المعارضة في الحكم دون أن يُعيد إنتاج معارضة جديدة في البرلمان والشارع.
لقد حرص الملك الراحل على وجود “معارضة قوية” للنخبة الجديدة التي ستدخل الحكم، وهو ما جعله يُماطل في إطلاق دينامية التناوب سنوات، في انتظار عودة اليوسفي، وأيضا في انتظار أن تنضج نخبة سياسية إسلامية (حزب العدالة والتنمية آنذاك) لتمسك بخيوط المعارضة في البرلمان، بعد أن يَعبُر الاتحاديون بوابة الحكم.
لا مجازفة في القول إن دخول الإسلاميين إلى البرلمان سنة 1997، لم يكن عرضا ديمقراطيا، بل كان شقًّا من سيناريو مدروس يسبق لحظة التناوب.
هذا الهاجس، أي ضرورة وجود معارضة، لم يكن تكتيكا فقط لضبط توازنات الداخل. بل كان فلسفة حكم. فقد رأى الحسن الثاني في المعارضة، منذ الستينات، مصدرا للشرعية، لا تهديدا لها.
فبينما بنى جدارا صلبا من الأجهزة لحماية الحكم، أبقى دائما نافذة مشرعة تجاه المعارضة، خصوصا حين تكون من طينة عبد الرحيم بوعبيد، الذي شهد له الملك مراتٍ كثيرة بـ”النبل” و”الوفاء”، رغم التوتر السياسي العميق والاختلاف حول المسار الدستوري والانتخابي.
يروي فتح الله ولعلو كيف ظل الملك يُقدّر بوعبيد رغم الصراع المحتدم، ويستدعيه للمشاورات، ويُظهر له الاحترام أمام الوزراء والسفراء. ويضيف أن علاقته باليوسفي لم تكن لحظة وفاق عابرة، بل ثمرة لهذا النهج المستمر في احتضان المعارضة القوية، ما دامت لا تُهدد الكيان ولا تنزع عن الدولة شرعيتها التاريخية.
لقد أدرك الحسن الثاني في وقت مبكر أن النظام الذي لا يُعيد إنتاج المعارضة، يتحوّل إلى ما يشبه الغرفة المغلقة التي تختنق ببطء. لذلك، حتى وهو على مشارف الرحيل، لم يتخلّ عن عُرف سياسي ذكي أن يضع للمخالفين مكانا في مركز القرار، وأن يُوجد لمناوئي الأمس مقاعد يملؤون بها الحلبة حين تفرغ من خصومه التاريخيين.
في خطابه الأخير للعرش، يوم 3 مارس 1999، وهو يُقيّم سنةً كاملة من التناوب، قال الحسن الثاني إنه “أعطى فرصة لنخبة جديدة كي تكتسب ثقافة التدبير”، و”أن تلامس الواقع الصعب المراس للحكم”. ثم مضى أبعد، مُشبّها تعاقب النخب السياسية على الحكم بتعاقب الزرع في الأرض، حيث يزداد الخصب، ويُتجنّب التصحّر.
إنها صورة فريدة لحكم يعتبر المعارضة جزءا من دورة الحياة السياسية، لا من طقوس الحرب.
تلك كانت عبقرية الحسن الثاني في سنواته الأخيرة: لم يغادر كرسي الحكم هاربا، بل تركه كما يترك أحدهم مقعد القيادة بعد أن يُدرّب خليفته على الطريق، ويُجهّز المركبة، ويملأ الخزان بالوقود، ويضبط المرايا.
حتى وهو يعيش آخر أيامه، لم يكن الحسن الثاني يودّع شعبه بعبارات رثائية أو بخطاب يفيض بالمشاعر، بل بخطة عمل دقيقة، وبكلمات تُشبه تلك التي يستخدمها الوزراء حين يقدمون برنامجا حكوميا. لكنه رحل بعد أيام على ذلك الخطاب، وبقيت تلك الأحلام معلّقة في الهواء.
فلماذا لم تتحقق؟
جزء من الجواب يكمن في طبيعة تلك الأحلام نفسها. فقد كانت مبنية على ريع استثنائي وغير متكرر: رخصة للهاتف المحمول بيعت بأكثر من مليار دولار، ظنّ الملك الراحل أنها ستكون قاطرة مالية لإطلاق ورش تنموي شامل، خارق للبيروقراطية، وخارج التخطيط الخماسي العادي.
لكن المال العام، حين لا تكون المؤسسات مهيأة لامتصاصه، يتحول إلى سيولة عمياء، تتبخر في الإنفاق الجاري، أو يضيع في متاهات الفساد.
ثم إن “الدينامية السياسية” التي أطلقها الحسن الثاني قبل رحيله، والتي كان يراهن على أن تواكب الحلم التنموي، سرعان ما ووجهت بعثرات الواقع: هشاشة الإدارة، انعدام ثقافة التخطيط السريع، غياب الجرأة في التغيير، والأهم: انتقال العهد لم يخلُ من ارتباك.
لقد خفّ وهج التناوب التوافقي، وتباطأت عجلة الإصلاح، وظهر أن شرعية الأمل شيء، وآليات التنفيذ شيء آخر تماما.
فهل فشلنا في تحقيق حلم الطرب والمال الذي يجري كالماء (أحد الظرفاء قال إن الماء نفسه نضب)، فقط لأننا لم نحسن التقدير والتدبير؟ أم لأننا، في لحظة ما، توقفنا عن الزرع أصلا؟
لعل أخطر ما حدث بعد رحيل الحسن الثاني ليس أن أحلامه التنموية تعثّرت (ولا أقول فشلت لأن هناك نجاحات نسبية)، بل أن فكرته الجوهرية عن السياسة كمجال لدورة الحياة، تُجدد نفسها بالاختلاف والتناوب، قد ضاعت بدورها.
لم نعد نستولد المعارضة من رحم الحكم، ولا نستبقي الحكم في مرآة المعارضة. لم نرع الحقل السياسي، بل جرّفناه، وتركناه عرضةً للجدب والتصحّر. فتحوّلت الأرض التي كانت تُثمر خلافا مشروعا، إلى ساحة صمت جماعي، لا تُنبت غير الخوف، ولا تُنتج غير التواطؤ.