story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

كيف نتعامل مع وثائق “جبروت”؟

ص ص

طرحت عمليات اختراق أنظمة المعلومات وقواعد البيانات التي جرت في الفترة الأخيرة، أخرها تسريبات قناة “جبروت” المتعلقة بوزير العدل عبد اللطيف وهبي، إشكالا قانونيا وأخلاقيا مستجدا، بعدما تحوّل الأمر إلى عمل روتيني بعدما ظل لسنوات في خانة الاستثناء.

فماذا نفعل حين تهب علينا عاصفة من الوثائق المسربة، تحمل في طيّاتها معلومات ذات قيمة قصوى للرأي العام، لكنها في الوقت ذاته خرجت إلى العلن عبر وسائل غير مشروعة، أو تحمل بصمات اختراق إلكتروني؟

أهو نداء الواجب المهني ما ينبغي أن يعلو، أم أن المسؤولية الأخلاقية والقانونية تفرض علينا التريث والحذر؟ سؤال لم يعد نظريا، بل بات يوميا في غرف تحرير الصحافة المغربية.

واقع الأمر أن المغرب، مثل باقي دول العالم، لم يعد بمنأى عن موجات التسريبات التي تضرب من حين لآخر مفاصل الدولة أو الشركات والمؤسسات الكبرى، وتكشف ما يدور في كواليس الأحزاب، أو تفضح التواطؤ بين السلطة والمال أو الإعلام.

تسريبات يراها البعض نعمة، ويعتبرها آخرون نقمة، لكن ما لا خلاف عليه هو أنها باتت ضيفا ملحّاً على مهنة الصحافة وكل من يحترف إنتاج المحتوى والنشر، بما تحمله من إغراءات السبق وضغوط التحقق وامتحانات الأخلاق.

علينا أن نعترف أولا أن التعامل مع الوثائق المسرّبة يضع الصحافي أمام معادلة معقّدة: كيف يحقق المصلحة العامة، أي تمكين المواطنين من معرفة ما يُحاك باسمهم أو يُرتكب في حقهم، دون أن يتحوّل إلى أداة في يد أجهزة خفية، أو شريك غير مباشر في انتهاك للخصوصية، أو حتى طرف في معركة استخباراتية عابرة للحدود؟

ما توصلت إليه الأبحاث الحديثة في هذا المجال، مثل دراسة الباحث الأمريكي Christopher Darnton المنشورة في مجلة American Political Science Review، يدعونا إلى إدخال مفهوم “المنشأ”(Provenance) إلى الممارسة الصحافية.

مفهوم يعني التحقق من سلسلة حيازة الوثائق المسربة وكيف وصلت إلى يد الصحافي، تماما كما يفعل علماء الحديث أو علماء الآثار حين يشكّون في أصالة قطعة فنية.
فالوثيقة المسروقة أو المقرصنة ليست مادة إعلامية مثيرة فقط، بل هي منتوج معرفي محفوف بشبهات الانتحال والانتقائية والتوظيف الدعائي، وقد تخفي وراءها نوايا تضليلية خطيرة.

وليس Darnton وحده من دق ناقوس الحذر، فمؤسسات عريقة مثل Nieman Reports وPoynter Institute، أنتجت معايير أخلاقية صارمة للتعامل مع التسريبات، لا تكتفي بسؤال “هل المعلومة صحيحة؟”، بل تذهب أبعد لتسأل: من سربها؟ ولماذا؟ وهل من شأن نشرها أن يضرّ بأبرياء أو يهدد الأمن العام؟ وهل علينا أن نتحقق منها عبر أكثر من مصدر مستقل؟ وهل نمنح من تمسهم الوثائق حق الرد قبل النشر؟

من هنا، تصبح المفاضلة بين المصلحة العامة والضرر المحتمل هي البوصلة الأخلاقية الأهم. فالقاعدة التي أرساها خبراء الأخلاقيات الإعلامية، تقضي بأن التسريب يُعتبر مشروعاً فقط حين يكشف عن خروقات تمس الصالح العام بشكل واضح، كما في فضائح الفساد المالي أو انتهاكات حقوق الإنسان، أو الكذب السياسي الذي يُمارس باسم الأمة.

أما حين يكون الهدف من التسريب تصفية حسابات سياسية، أو خدمة أجندة استخباراتية، أو تشويه سمعة أشخاص دون قرائن دامغة، فإن الصحافي الملتزم (مهنيا) لا يجب أن ينخرط في هذه اللعبة القذرة، حتى وإن كانت المغريات المهنية والإعلامية طاغية.

وقد علّمتنا التجارب العالمية الكبرى الكثير في هذا الباب. تسريبات “ويكيليكس” مثلا كانت بمثابة صدمة أخلاقية ومهنية لمجتمع الصحافيين، وقد نجح موقع الأسترالي جوليان أسانج في فرض نفسه على الصحافة التقليدية، فقط لأنه قدّم مادة خاما دون معالجة أو سياق، وترك الجمهور في مواجهة المعلومة العارية.

لكن المؤسسات الإعلامية العريقة مثل ال”غارديان” البريطانية، و”لوموند” الفرنسية، و”ديرشبيغل” الألمانية، فرضت معايير مهنية حين تعاونت مع صاحب تسريبات “ويكيليكس”، تقوم على التأكد والتحليل والتفسير والتخفيف من الأذى، وهذا ما جعلها تحافظ على مصداقيتها.

أمر كرّرته تجارب لاحقة، أهمها تحقيقات “أوراق بنما” التي نسّقها الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، حيث تم التعامل مع ملايين الوثائق المُسرّبة ضمن مشروع عابر للقارات، استغرق شهورا من التحقق والمقارنة والتمحيص، قبل النشر المتدرج للمعلومات.

ولم يكن الغرض هو الإثارة، بل تمكين الجمهور من فهم شبكات التهرب الضريبي ومحاسبة الفاسدين، دون المساس بالخصوصيات أو إطلاق اتهامات دون بيّنة.

ويمكن تلخيص القواعد الأخلاقية والمهنية للتعامل مع الوثائق المتحصّل عليها من التسريبات، على النحو التالي:

• لا يجوز نشر أي معلومة مسرّبة قبل التحقق من صحتها، من خلال فحص الوثائق تقنيا والاستعانة بمصادر مستقلة للتأكيد أو النفي؛

• النشر يكون بقدر تحقيق المصلحة والقيام بوظيفة الإخبار والكشف والفضح البناء، وبالتالي ينبغي الاكتفاء بالإشارة إلى طبيعة الوثيقة دون نشرها، أو معالجتها لإخفاء المعطيات الشخصية وغير الضرورية قبل النشر؛

• لا يُبرّر النشر إلا إذا كانت الوثائق تكشف معلومات تمسّ الصالح العام بشكل واضح، مثل الفساد، أو انتهاك الحقوق، أو إساءة استخدام السلطة، مع تجاوز الفائدة المرجوة للضرر المحتمل؛

• يجب تقدير الآثار الواقعية التي قد تترتب عن النشر، سواء على الأفراد (انتهاك خصوصيتهم وتعريض سلامتهم للخطر) أو على المؤسسات (الأمن القومي، نزاهة التحقيقات القضائية)؛

• لا يجب الاكتفاء بنشر كمّ هائل من الوثائق كما هي، بل يجب غربلتها وتفسيرها وتقديمها في سياق يخدم الفهم العام، دون إغراق الجمهور في بيانات خام قد تُساء قراءتها؛

• في الحالات التي يتعذر فيها التحقق الكامل، يجب إبلاغ القارئ بذلك بوضوح، لتجنّب التضليل وتحميله المسؤولية في تقييم ما يُعرض عليه؛

• تتبع مسار انتقال الوثيقة، وظروف حصول الصحافي عليها، ومنع استخدامها دون فهم سياقها الكامل، لتفادي التوظيف المضلل أو السطحي.

نحتاج اليوم في المغرب إلى نقاش مجتمعي وأخلاقي حول هذه القضايا. فغياب قانون فعال لحماية المبلغين عن الفساد، وضعف التنظيم الذاتي للصحافة، وغموض المعايير المهنية في غرف التحرير، تجعلنا معرضين أكثر لتكرار الأخطاء أو الوقوع في الفخاخ المنصوبة بإتقان.

كما أن ضعف الولوج إلى المعلومة الرسمية يدفع الصحافيين إلى الركض خلف كل ما يُسرّب، دون قدرة حقيقية على التحقق أو التقويم أو حتى الاستيعاب.

إن الصحافي ليس قاضيا، لكنه أيضا ليس مجرّد ناقل أعمى لما يتسرب إليه. هو عقل نقدي، وأخلاقي، ومهني، يحمل أمانة التمييز بين المعلومة التي تستحق النشر لأنها تنفع الجمهور، وتلك التي ينبغي حجبها لأنها تضر بأبرياء أو تسهم في تضليل.