انتخابات 2026.. اقتراع بدون سؤال

على بعد حوالي سنة من موعد انتهاء الولاية التشريعية، تطرح أكثر من علامة استفهام نفسها بشأن طبيعة انتخابات 2026: ما هو السؤال الجوهري الذي تطرحه؟ ما هي رهاناتها الحقيقية؟ هل هناك قضايا تحفز المغاربة وتدفعهم إلى التفاعل والمشاركة فيها؟ وإلى أي حد تملك الأحزاب السياسية أجوبة، أو على الأقل أسئلة واضحة، بخصوص المرحلة المقبلة؟
خلال فترة ما بعد اعتماد الدستور الحالي، عرفت الحياة السياسية المغربية ثلاث محطات انتخابية كبرى، كل واحدة منها جرت في سياق سياسي واجتماعي خاص وطرحت رهانات مختلفة، سواء على مستوى التنافس الحزبي أو على مستوى تمثيل المزاج العام للمجتمع، أو على مستوى الرهانات السياسية المطروحة.
في انتخابات 2011، كان المحدد الأساسي هو حراك 20 فبراير، وما ولده من شعارات ومطالب شعبية بتعزيز الديمقراطية ومحاربة الفساد والاستبداد. وقد اشتد التقاطب السياسي آنذاك بين حزب العدالة والتنمية، الذي أخذ نفوذه الانتخابي والسياسي يتعاظم منذ أن أصبح ممثلا في البرلمان خلال الانتخابات التشريعية لسنة 1997، ومجموعة الثمانية (G8)، التي تشكلت أساسا بهدف قطع الطريق أمام وصول الحزب الإسلامي إلى قيادة الحكومة.
وفّر هذا السياق حينها مشهدا سياسيا واضح المعالم، طغى عليه تقاطب حاد ووعود إصلاحية قوية، ما ساعد على إضفاء طابع سياسي بامتياز على تلك الانتخابات. وزاد من هذا الزخم قيادة حزب العدالة والتنمية لحكومة ما بعد الدستور، مما أضفى حيوية كبيرة، ربما غير مسبوقة، على الحياة السياسية في المغرب.
في انتخابات 2016، عاد الاستقطاب بشكل أكثر وضوحا بين حزبين كان الصراع بينهما قد احتدم حتى قبل اندلاع حراك 20 فبراير، وشكل أحد أبرز مظاهر الانقسام داخل الحقل الحزبي المغربي.
فمنذ تأسيسه سنة 2009، قدم حزب الأصالة والمعاصرة نفسه كـ “مشروع حداثي”، يهدف صراحة إلى كبح جماح حزب العدالة والتنمية، والحد من تصاعد نفوذه الانتخابي والسياسي. في المقابل، واصل “الحزب الإسلامي” تقدمه بثبات داخل المشهد السياسي، مستفيدا من دينامية ما بعد 2011، ومن رسملة تجربة تدبيره للشأن الحكومي لأول مرة في تاريخه.
خلال تلك الانتخابات تبنى عبد الإله بنكيران خطابا يجمع بين النزعة الإصلاحية واللغة الشعبوية، حيث خاطب عموم المواطنين بلغة بسيطة ومباشرة، ممزوجة بمرجعيات دينية وأخلاقية، متبنيا في الوقت ذاته نبرة نقدية قوية تجاه مراكز النفوذ وما ظل يسميه “التحكم” أو “العفاريت والتماسيح”.
وشكل هذا الخطاب أحد مفاتيح التعبئة السياسية التي ساهمت في تعزيز موقع حزب العدالة والتنمية في ذلك الاستحقاق. في وقت كثف فيه حزب الأصالة والمعاصرة، الذي شكل آنذاك التعبير الأكثر وضوحا عن تدخل الدولة في ضبط التوازنات الانتخابية، جهوده لمحاصرة تمدد نفوذ حزب العدالة والتنمية. وقد أدت طبيعة الاستقطاب الحاد بين حزبين أحدهما يحظى بشعبية انتخابية متنامية، والآخر ينظر إليه كامتداد لمؤسسات الدولة، إلى رفع منسوب التوتر السياسي، وإثارة سؤال جوهري: من يمثل الإرادة الشعبية؟ هل هو الحزب الذي يعكس وزنا انتخابيا فعليا، أم الحزب الذي يستفيد من دعم مؤسساتي غير معلن؟
أما انتخابات 2021، فقد جرت في سياق مغاير تماما عن الاستحقاقات السابقة، إذ طغت عليها تداعيات جائحة كورونا، بما خلفته من آثار عميقة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية. كما صاحب تنظيمها تراجع منسوب الثقة في المؤسسات المنتخبة والأحزاب السياسية، في ظل تفاقم مظاهر الهشاشة، وتزايد مشاعر الإحباط وفقدان الثقة في قدرة الفاعلين السياسيين على تقديم حلول واقعية وناجعة لأزمات من هذا النوع.
وكان الرهان المعلن ـ وإن لم يصرح به رسميا ـ هو إنهاء تجربة العدالة والتنمية، بعد عشر سنوات من قيادته للحكومة، بالنظر إلى ما راكمه من تناقضات داخلية وتنازلات سياسية (التطبيع، تقنين الكيف..) وقرارات لا شعبية أضعفت قاعدته الاجتماعية والانتخابية.
لكل ذلك، شهدت تلك الانتخابات إعادة تشكيل شبه شاملة للمشهد الحزبي، تمثلت في صعود حزب التجمع الوطني للأحرار إلى الصدارة، مستفيدا من حملة إعلامية كثيفة، وإمكانيات مالية وتنظيمية ضخمة، إلى جانب خطاب يركز على الكفاءة والتنمية، ويقدم وعود جد مرقمة.
اليوم، ونحن على بعد سنة واحدة من انتخابات 2026، تبدو الساحة السياسية والحزبية خالية من رهانات واضحة أو تقاطبات سياسية حقيقية قادرة على تعبئة الناخبين أو إحداث دينامية ديمقراطية نوعية.
فـ “الأحزاب السياسية الكبرى” تبدو، في مجملها، مرهقة أو متقوقعة في مواقع يصعب معها تمييز الفوارق الجوهرية بينها، رغم ما يبديه حزب الاستقلال من مؤشرات على رغبته في تجاوز موقع الشريك، وخوض غمار تجربة جديدة في قيادة الحكومة، مستندا إلى العمل الذي قام به بغرض إعادة ترتيب بيته الداخلي، ورص تنظيم صفوفه، واستثمار رصيده التاريخي والمؤسساتي، بالإضافة إلى استغلال “القاعدة السياسية” السائدة التي تفيد أن منصب رئيس الحكومة في المغرب لا يشغله نفس الشخص أكثر من مرة واحدة.
وتواجه الحكومة، بقيادة التجمع الوطني للأحرار، تراجعا تدريجيا في شعبيتها، ليس فقط بسبب غلاء الأسعار وتفاقم الأزمات الاجتماعية، والتحدي الكبير الذي يطرحه موضوع تشغيل الشباب، وإنما أساسا بسبب صعوبة تمثلها كحكومة قادرة على بلورة تعاقد سياسي واضح المعالم، يربط بين الإنجاز الاقتصادي والشرعية الديمقراطية، مما جعل أداءها يكاد يختزل في منطق التدبير التقني، بعيدا عن رهانات التمثيل والمساءلة السياسية.
لكن هذا التراجع لا يقابله صعود واضح للمعارضة، ولا وعي مجتمعي متراكم يقود إلى لحظة سياسية نوعية. فحزب العدالة والتنمية، الذي مني بهزيمة قاسية في انتخابات 2021، لا يزال في طور استيعاب الصدمة وترميم بنيته الداخلية، رغم محاولات أمينه العام، الجديد ـ القديم، استعادة وهج الحزب ومحو الندوب التي خلفتها مرحلة قيادته تحت إشراف سعد الدين العثماني. أما باقي أحزاب المعارضة فهي إما محدودة التأثير، أو أنها تبدو عاجزة عن بلورة بدائل سياسية مقنعة وقادرة على استقطاب اهتمام الرأي العام واستعادة الحد الأدنى من الثقة في العمل الحزبي.
من جهة أخرى، فإن عدم تزامن هذه الانتخابات مع انتخابات الجماعات الترابية، التي يكون فيها مستوى تعبئة الانتخابية والسياسية أكبر، سيضعف لا محالة من الزخم الشعبي والسياسي للعملية الانتخابية.
ففي محطة 2021، ساعد التزامن بين الاستحقاقين الانتخابيين على رفع نسب المشاركة وتكثيف الحركية الميدانية للأحزاب السياسية، سواء عبر تعبئة المنتخبين المحليين أو من خلال ربط الرهانات التشريعية بالاهتمامات الترابية للمواطنين. أما في 2026، فإن الانتخابات ستكون محصورة في بعدها البرلماني، مما يجعلها مهددة بالعزوف أو على الأقل بضعف التعبئة المجتمعية والسياسية. وهذا السياق يجعل من سؤال التمثيلية وإعادة بناء الثقة بين المواطن والسياسة القضية المركزية في هذه المحطة الانتخابية.
في ظل هذا الشعور بتآكل رصيد الوساطة الحزبية، وتراجع الثقة في الفاعلين التقليديين، يتم الدفع تدريجيا بمنطق “الإنجاز التقني” إلى واجهة المشهد، عبر تسويق حكومة يفترض أنها تشتغل على تحضيرات تنظيم كأس العالم 2030، وكأنها عنوان للمرحلة المقبلة.
غير أن الرهان على حكومة “المونديال” كأفق انتخابي يفرغ العملية السياسية من مضمونها، لأن منطق الإنجاز المرتبط بحدث رياضي مهما كانت أهميته لا يمكن أن يعوض الحاجة إلى تعاقد سياسي ومؤسساتي حقيقي ينبني على برامج، ومسؤوليات، وخيارات خاضعة للمساءلة.
فالديمقراطية لا تقاس بقدرة حكومة وظيفية على إنجاح تظاهرة دولية، سيما وأن نتائجها قد لا تكون مضمونة، بل بمدى قدرتها على التعبير عن الإرادة العامة، وتنزيل السياسات العمومية في إطار الشرعية التمثيلية.
لذلك، فإن اختزال المستقبل السياسي للبلاد في شعارات من قبيل “حكومة المونديال” لا يعكس طموحا مجتمعيا حقيقيا، بل يؤشر على عمق الأزمة البنيوية للوساطة والتمثيل، ويعزز من منطق العزوف والتسيير الإداري بدل الحكم السياسي.
على هذا الأساس، فإن الهاجس الأساسي الذي يبدو أنه سيلقي بظلاله على انتخابات 2026 هو أزمة الثقة. فالمواطن المغربي العادي أصبح في “وضع رمادي”: لا يثق كثيرا في المؤسسات المنتخبة، ولا يرى في الأحزاب السياسية أداة فعالة للتغيير، ولا يجد في الخطابات السياسية ما يحفزه على التعبئة أو المشاركة.
هذه الأزمة لا تعود فقط إلى الأداء الحكومي أو إلى الوعود التي لم تتحقق، بل تتصل بمنظومة أشمل تتداخل فيها بنية النظام الحزبي، وآليات صناعة القرار، والهوة العميقة بين النخبة السياسية والمجتمع.
وإذا لم تنجح القوى السياسية المتنافسة في تقديم تصورات جديدة ومقنعة، فإن الانتخابات المقبلة ستكون مجرد تمرين مؤسساتي “بروتوكولي”، يتم فيه إعادة ترتيب المواقع ضمن معادلة السلطة لا ضمن خريطة التعبئة الشعبية.
في هذا السياق، سيكون من المشروع التساؤل: هل ستكون انتخابات 2026 مجرد إعادة تدوير للنخب الحزبية؟ وهل الهدف منها هو ضمان استمرارية نمط التدبير القائم للشأن العام، مع تجديد شكلي للوجوه؟ أم أن هناك فرصة لطرح نقاش عمومي حول البدائل السياسية والاجتماعية الممكنة؟
إن غياب استقطاب إيديولوجي، وضعف المعارضة، واحتواء معظم الأحزاب السياسية داخل منطق “أحزاب الدولة”، كلها عوامل تشير إلى أن الانتخابات المقبلة قد تفتقد للمعنى السياسي العميق، ما لم تقع تحولات غير متوقعة في المزاج العام أو في توازنات الحقل السياسي.
وبينما تنشغل الدولة بإدارة الاستقرار السياسي، أو على الأصح “الركود السياسي”، وتحاول تجديد الشرعية من خلال التوازن بين الحضور الرمزي للملكية والأداء التقنوقراطي للحكومة، تبدو حركية المجتمع في حالة كمون.
فالمجتمع المغربي، رغم بعض مظاهر يقظته، لم يصل بعد إلى درجة كسر السكون أو طرح نفسه كفاعل مستقل. وما دامت الانتخابات تدار من الأعلى دون رهان سياسي من الأسفل، فإن مخرجاتها ستظل تعكس منطق الضبط أكثر مما تعبر عن منطق الإرادة الشعبية.
إن سؤال انتخابات 2026 في المغرب، إذن، ليس من نوع الأسئلة التي طرحت في العقد الماضي. فهو لا يدور حول من سيفوز، أو من سيتصدر النتائج، أو ما هو البرنامج الأفضل، بل يتعلق بجوهر السياسة في المغرب؟ وكيف تدار المشاركة في زمن التآكل الديمقراطي والمؤسساتي؟
وإذا كانت انتخابات 2011 قد ارتبطت بحراك شعبي وإقليمي، وانتخابات 2016 بصراع بين “مشروعين سياسيين”، وانتخابات 2021 بتدخلات ناعمة لإعادة هندسة المشهد السياسي بشكل يمحي ذاكرة “الربيع العربي”، كما قلنا، فإن انتخابات 2026 قد تكون أول محطة تنظم في ظل “فراغ سياسي”، وغياب المعنى، وضعف الحماسة، ما لم تستجد عناصر جديدة تغير من طبيعة السؤال المطروح.
في ظل هذا المعطى، لا بد من الانتباه إلى أن المقاطعة السياسية والانتخابية، إن لم تتخذ طابعا احتجاجيا منظما، فإنها قد تتحول إلى قبول ضمني بواقع لا يقبله أحد أو يرضى عنه. ولذلك، فإن أكبر رهان في هذه المرحلة ليس فقط معرفة من سيقود الحكومة، بل كيف يمكن إعادة ربط المواطن بالسياسة، واستعادة الثقة، وفتح أفق جديد يعطي للانتخابات المعني الذي يجب أن تتخذه كآلية للتعبير والتغيير، لا كمجرد محطة إجرائية لتجديد النخب وإعطاء الانطباع بالتغيير.
فالمستقبل السياسي لأي بلد لا يقاس فقط بنتائج صناديق الاقتراع، بل بقدرة هذه النتائج على تجسيد الإرادة الحرة للناخبين، وإفراز بدائل حقيقية تمكن من تجديد النخب، وتحقيق التناوب على السلطة، وتطوير السياسات العمومية، وتحقيق التغيير الذي يستجيب لتطلعات وانتظارات المواطنين. وهي الإرادة التي يبدو أنها اليوم موضوعة بين قوسين، حتى لا نقول غائبة، في انتظار مفاجآت قد يحملها الواقع، أو استمرارية رتيبة تؤجل الأسئلة بدل أن تجيب عنها.