إفريقيا في مزاد ترامب

القمة المصغّرة التي جمعت، هذا الأسبوع، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بخمسة رؤساء أفارقة (موريتانيا، السنغال، الغابون، ليبيريا، غينيا بيساو) ليست مجرد لقاء مجاملة، بل هي افتتاح عملي لسياسة أمريكية جديدة، تُخرج القارة من قاعة الانتظار، وتُدخلها إلى غرفة العمليات الاستراتيجية. فما كان يُسمى في السابق بـ”الشراكة الأمريكية الإفريقية من أجل التنمية والديمقراطية”، لم يعد له وجود يُذكر، بعد أن جرى إلغاء جل مهام الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) في فبراير الماضي، ووُضعت نقطة نهاية لزمن المساعدات غير المشروطة.
اختيار الدول الخمس المدعوّة إلى البيت الأبيض لم يكن عشوائيا. فهي قد لا تزن كثيرا في ميزان العلاقات الدولية، لكنها تملك ما صار يُعد اليوم “الذهب الحقيقي”: المعادن النادرة والاستراتيجية. فالغابون هي ثاني مصدر عالمي للمنغنيز، والسنغال وموريتانيا بدأتا للتو استخراج الغاز البحري، وليبيريا وغينيا بيساو تختزنان كميات هائلة من الذهب والفوسفات والماس والبوكسيت. وما لا تستغله هذه الدول بعد، هو ما تراهن عليه الولايات المتحدة لتأمين سلاسل إنتاجها الصناعية بعيدا عن قبضة الصين.
لقد تحوّل الليثيوم، والكوبالت، والمنغنيز، والنيكل، وغيرها من المعادن النادرة إلى الورقة الرابحة في حرب الاقتصاد العالمي. والولايات المتحدة، التي شعرت بأنها استُبعدت من التغلغل الإفريقي لصالح الصين التي سيطرت على مناجم الكونغو وزيمبابوي وزامبيا، عادت اليوم عبر بوابة ولاية ترامب الثانية، لترتيب قواعد لعبة جديدة: أقل معونات، وأكثر صفقات، وأقل تبشير ديمقراطي، وأكثر عقودًا في مجال الطاقة والمعادن والبُنى التحتية.
وليس صدفة أن تتزامن هذه القمة مع إعلان مبادرة جديدة لما يُسمى بـ”الرباعية” (Quad)، التي تضم أمريكا والهند واليابان وأستراليا، والرامية إلى “تنويع مصادر الحصول على المعادن الاستراتيجية”.
الرسالة باتت واضحة إذن: كسر هيمنة الصين على المعادن الإفريقية لم يعد مجرد أولوية اقتصادية، بل أصبح أولوية أمن قومي أمريكي. أما القارة الإفريقية، فمطالَبة إما بالتجاوب وإما بالخروج من الحلبة.
وحين أعلن ترامب في بداية القمة أن “العصر الخيري قد انتهى”، كان يُلخّص التحوّل الكامل في العقيدة الأمريكية تجاه إفريقيا. فلا حديث عن تمكين المرأة، ولا عن سياسات المناخ، ولا عن الديمقراطية والحكم الرشيد. كل ذلك تمّت أرشفته مع مغادرة بايدن للبيت الأبيض. ومن الآن فصاعدا، كل شراكة مع واشنطن ستُقاس بميزان الربح والخسارة، وستُصاغ بعقلية رجل الأعمال لا رجل الدولة.
في خضمّ هذا التحول، يُطرح سؤال مركزي: أين موقع المغرب من كل هذا؟ والجواب يكمن في المعادلة الدقيقة التي يحاول المغرب اليوم صوغها: البقاء شريكا استراتيجيا للولايات المتحدة، مع الحفاظ على استقلال قراره الدبلوماسي، وتوسيع هوامش تحركه في إفريقيا.
منذ أن اعترفت واشنطن بمغربية الصحراء في ولاية ترامب السابقة، دخلت العلاقات الثنائية مرحلة “ما بعد التحالف الكلاسيكي”، نحو ما يمكن تسميته بشراكة النفوذ. والمغرب الذي يُشيد اليوم ميناء الداخلة الأطلسي، ويمتلك قاعدة استثمارية في غرب إفريقيا، ويقود مشاريع استراتيجية في الساحل، يجد نفسه في موقع فريد: بوابة للأمريكيين نحو إفريقيا، ونقطة ارتكاز لتحجيم النفوذ الصيني والروسي، وقوة استقرار في منطقة شديدة التقلب.
الحديث عن نقل مقر القيادة الأمريكية في إفريقيا (AFRICOM) من ألمانيا إلى المغرب، والذي طرحه نواب جمهوريون خلال ولاية ترامب الأولى، لم يعد فكرة طوباوية، بل يبدو أنه يُعاد بعثه في الكواليس. كما أن مشروع ميناء الداخلة قد يُصبح، في منطق السياسة الترامبية، جزءا من “المجال الحيوي” الأمريكي الجديد على الساحل الأطلسي، خصوصا إذا أضيف إليه البُعد الأمني في مكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية والتهديدات البحرية.
لكن أكثر الملفات حساسية يظل هو ملف الصحراء. ففي وثائق منظمة “The Heritage Foundation”، يُعاد تأكيد دعم سيادة المغرب، والدعوة إلى إنهاء مهمة المينورسو، بل واعتبارها “بقايا آلية أممية عفا عنها الزمن”. وإذا ما نجحت المملكة في الحفاظ على زخمها داخل الإدارة الجديدة، فإن مرحلة “الحسم الأمريكي” في هذا الملف قد تقترب، سواء عبر ترسيخ الاعتراف أو الدفع نحو حلول عملية تُخرج القضية من حالة الجمود.
ومع ذلك، فالمغرب ليس بمنأى عن تعقيدات المرحلة. فالتحول الأمريكي نحو خطاب المصالح البحتة قد يصطدم بتوازنات الرباط الإقليمية، خاصة في إفريقيا الغربية، حيث تنامي حضور روسيا والصين، ووجود حساسيات داخلية تجاه النفوذ الغربي، يجعل الاصطفاف التام مع واشنطن قرارا محفوفا بالتكلفة.
كما أن الرهان الأمريكي على دول مثل السنغال وموريتانيا يُضعف جزئيا من تفرد المغرب كشريك أساسي، ويدفعه إلى مراجعة استراتيجيته الإفريقية، لتشمل تعزيز النفوذ الاقتصادي في هذه الدول، واستباق الفراغات التي قد تخلقها التحالفات الجديدة.
في النهاية، يتضح أن القارة الإفريقية لم تعد مجرد ضحية تناقضات الكبار، بل أصبحت رهينة مزاد عالمي جديد، تُباع فيه الولاءات بالصفقات، وتُشترى فيه الموارد بالهيمنة. ومن بين كل القوى، يبدو أن إدارة ترامب هي الأكثر وضوحا، وربما الأكثر قسوة، لكنها بالمقابل، تفتح الباب أمام من يملك الجرأة على التفاوض، والقدرة على حماية مصالحه.
وعلى المغرب أن يقرأ جيدا خارطة العالم الجديد، حيث لا أحد يمنح شيئا مجانا، وحيث القيمة تُقاس بموقعك على الخريطة، بما تحت قدميك من معادن، وبما يمكنك أن تقدّمه، لا بما تستحقه.